إبراهيم كوكي يكتب في “بوليتكال كيز”: سياسة إنهاء الملفات
يعتبر إنهاء الملفات وسحق الشخصيات وإغلاق الملفات من أهم المسائل التي تجري كلّ حين من الزمن بعد كل مرحلة، ويقوم إنهاء الملفات على مسارين متزامنين، الأول معركة تغير الواقع على الأرض، والثاني اغتيالات بهدف (غلق الملفات، إغلاق الصناديق السوداء، تغيير الوجوه، واستبدالها بوجوه جديدة حسب المرحلة).
لا أوّل لهذه المرحلة تاريخيًا، ولكني سأرجع إلى ملف إنشاء تنظيم القاعدة لقتال الروس في أفغانستان، ودعمه وتسليحه وتقويته، وجلب المقاتلين ليقاتلوا معه، ثم القرار بإنهاء الملف والقضاء على تنظيم القاعدة، وكان اغتيال أسامة بن لادن جزءًا مهمًا من قضية إغلاق الملفات في أيار/ مايو2011. كما توفي الملا عمر بطريقة غامضة في تموز/ يوليو 2015، وقتل أيمن الظواهري في تموز/يوليو 2022.
الثاني، بعد حرب العراق، استجلب النظام السوريّ عدداً ضخماً من الجهاديين، قدموا عبر سورية في حدد مفتوحة من جانب واحد، وبعد أن تم حشدهم هناك، تم صيدهم، حتى تم القضاء عليهم، الثالث، يعتبر أبو القعقاع محمود قول أغاسي من أشهر الشخصيات التي كانت بحشد الشباب وإرسالهم إلى بغداد، في عام 2007 تم اغتياله والقضاء عليه وإنهاء ملفه.
الرابع، عام 2004 تم اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رئيس الحريري، وكان الملف غامضاً جداً رغم وضوح تورط النظام السوريّ فيه، إلا أن أحداً لم يمسك بطرف الخيط، وبعد مجموعة تحقيقات دولية، فوجئ الجميع بإعلان انتحار غازي كنعان أكتوبر 2005، تبعه مقتل أخيه علي كنعان بحادث قطار باللاذقية، ثم اغتيال عماد مغنية شباط 2008 بدمشق، والعميد عبد الكريم عباس 2008(مرافق رستم غزالي) واللواء أمين شرابي نيسان/ إبريل 2012، ثم رستم غزالي عام 2015.
وبعد أن كشف أحد الضباط اللبنانيين أسماء قتلة الحريري تمّ اغتياله وهو النقيب وسام عيد في يناير 2008، ثم فوجئنا بالقتلة يقتلون واحداً تلو الاخر في غوطة دمشق..! أولهم مصطفى بدر الدين 05/2016، ثم قادة المجموعات المخططة والمنفذة لاغتيال الحريري وهم: “سليم عياش”، و”أسد صبرا”، و”حسين عنيسي”، و”حسن مرعي”، وتبعهم “حسان هولو القيس” الذي كان قائد إحدى الخلايا، حسان هولو اغتيل أيضاً أمام منزله عام 2013، وبتاريخ 27 كانون الأول/ ديسمبر 2013 قدم عشرون مقاتلاً محترفاً من كوادر حزب الله إلى سوريا للمشاركة في عمليات خاصة بمعارك جوبر، وهم من كوادر المجموعات التي ساهمت بمقتل رفيق الحريري، بعضهم كانوا من كوادر “مصطفى بدر الدين” ((المجموعة الخضراء))، وبعضهم كان مجنداً لدى “سليم عياش”. وخلال عام 2014 عادوا جميعاً إلى لبنان ولكن بشكل متفرق، وبتوابيت صفراء، حتى أغلق ملف اغتيال الحريري تماماً.
الخامس، عام 2006 دخل شاكر العبسي مخيم نهر البارد الفلسطيني، ورغم أنه كان ماركسياً يسارياً، إلا أنه أصبح في ليلة سلفياً جهادياً وأعلن عن إمارة إسلامية في المخيم، وعام 2007 أُعلنت الحرب على فتح الإسلام، وتمَّ تدمير المخيم بالكامل وتهجير أهله ولم يبق فيه حجر على حجر. وبعد سبع أشهر من القصف والحصار براً وبحراً وجواً أعلن أنه هرب مع 500 شخص من المخيم في شهر إيلول 2007. ثم اختفى نهائياً من المشهد.
السادس، الثورة السورية، التي بدأت 2011، وكانت حدثاً فارقاً في المنطقة. تم في يوم واحد اغتيال جميع قيادات خلية الأزمة، تموز2021، وبعدها بقيت الثورة مسلحة، إلى أن بدأت اتفاقيات تهجير المدن، وتم تهجير جميع من يحمل فكرة الثورة إلى الشمال.
السابع، تم إعلان تنظيم دولة الشام والعراق عام، وبعد أن قام بانتزاع المحرر من أيدي أهله، بدأ التحالف الدولي مهمته في القضاء على التنظيم منذ عام 2014، وبلغ أوجهه عام 2016، إلى أن قتل البغدادي في أكتوبر 2019.
وقد حدثت مجزرة سبايكر في يونيو/2014، أعقبها تشكيل الحشد الشعبي الشيعي في نفس العام، ومن أبرز مراحل القضاء على التنظيم أن عدد الفرنسيين في التنظيم داعش كان محدداً ومعروفاً للحكومة الفرنسية، وما بين 2014 و2016، أرسلت فرقة خاصة، فقضت عليهم في سوريا وتركيا واليونان قبل دخولهم الأراضي التركية، إلا رجلاً واحداً تجري محاكمته (عثمان غاريدو-أبو سلمان الفرنسي)، كان القضاء عليهم كي لا تدخل القضية المحاكم، ولكن هذا الوحيد الذي بقي على قيد الحياة.
الثامن، شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2016 كان عام إنهاء ملف حلب بالتهجير، وتم اغتيال قاسم سليماني ومهدي المهندس في يناير 2020 وهما من مهندسي معارك حلب، التاسع، وفي نيسان من عام 2018، كان عام إنهاء ملف الغوطة بالتهجير، وتم قبله اغتيال زهران علوش في ديسمبر 2015، وقبله قائد لواء “فتح الشام” فهد الكردي 2014، وهو الشهر الذي تم فيه اغتيال جميع قادة حركة أحرار الشام الإسلامية خريف 2014. وبعده اغتيال أمير حركة أحرار الشام في حمص، أبو راتب الحمصي، إضافة لعمليات اغتيال رفيعة لشخصيات ما بين الثورة والنظام خلال تلك الفترة.
العاشر، في إنهاء الملفات كان إنهاء ملف الثورة المصرية من خلال الانقلاب العسكري في مصر في يوليو/2013 ثم مجزرة رابعة في آب/2013، وبذلك أُغلق ملف الثورة المصرية وشرعية الإخوان وحكم مرسي الذي مات بشكل مفاجئ في حزيران/ يونيو 2019.
الحادي عشر، في اليمن دخلت عاصفة الحزم لتخلق واقعاً جديداً أراه شخصياً أنه القضاء على الثورة وإدخال اليمن في حالة فوضى وتسليمه للحوثيين ريثما يتم وضع واقع جديد، كانت عاصفة الحزم في نيسان/ أبريل2015.
إذاً… يبدو أننا اليوم أمام إنهاء ملف مهم برز طويلاً على الساحة وهو ملف حزب الله الذي تأسس عام 1982، وتولى قيادته حسن نصر الله عام 1992.
حزب الله له ملفات كثيرة شارك فيها، وهي اغتيال الحريري، أحداث عبرا. تجميد الوضع السياسي اللبناني، السيطرة على لبنان عبر السيطرة على ملفات هامة منها المطارات، كما خطف جثتي جنديين إسرائيليين في تموز من عام 2006، وكانت حرب تموز التي دمرت فيها إسرائيل لبنان، كما شارك الحزب في القضاء على الثورة السورية وقتال الثوار المسلحين، وعمل على احتلال العديد من المدن وإحلال تغيير ديموغرافي فيها أبرزها مدن الشرق كالبوكمال، وبعض مناطق دمشق.
ومنذ طوفان الأقصى برز دور الحزب في قصف محدود على بعض قرى الشمال الفلسطيني، إلى أن بدأت مرحلة مفاجئة، عبر اغتيال مفاجئ وغريب بهواتف البيجر لعدد ضخم من الكوادر بلحظة زمنية واحدة، أعقبه استهداف آخر في اليوم التالي، ثم اغتيال عشرين شخصية بارزة من الحزب، وانتهى الملف باغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله ليلة السبت 27 أيلول/ سبتمبر 2024، بحملة متفجرات استهدفت المربع السكني الذي يختبئ فيه، وقيل إنه كان في الطابع السابع وربما العاشر تحت الأرض، ورافقه في الاغتيال شخصيات رفيعة من الحزب، وشخصيات إيرانية منها نائب قائد الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفوروشان وشخصيات رفيعة أخرى.
اللافت في هذا الاغتيال التهاوي السريع لقيادات رفيعة وكوادر عسكرية وأمنية مهمة في الحزب خلال أيام قليلة، مما جعل الحزب الآن في مراحل النزع الأخيرة.
ويتوازى مع ذلك شدة الحرب في غزة، واغتيال كوادر هنا وهناك، والتي آخرها قيادي عسكري اغتيل في سوريا بقصف دقيق استهدفه قرب دمشق.
من المهم أن نذكر أن النظام السوري طيلة المرحلة السابقة لم يحرك ساكناً، وإيران أدارت وجهها، واكتفت بقتل اسماعيل هنية، وتم تغيير الرئيس الايراني بشكل غامض، ويبدو انها سلمت الحزب لأعدائها التاريخيين، مقابل أن تكون في المرحلة المقبلة، فهي اليوم دولة حديثة، لا حرس ثوري ولا ثورة.
التحليل لما يحدث أن مرحلة (الفوضى) في مرحلة الإنهاء، ويبدو أن إسرائيل عازمة على التالي، نحن أمام واقع جديد كلياً في كامل المنطقة، فلسطين (الضفة وغزة)، ولبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، ومصر، والسودان، وليبيا، وسيكون هنالك شرق أوسط جديد بالكامل، بالتالي سيتم إنهاء جميع الفصائل والميليشيات والعناصر المسلحة خارج إطار الدولة والحكومة والنظام، والإبقاء على الأنظمة الحالية بعد أن تم إضعافها وإنهاكها وإفقارها ونزع معظم أسلحتها، وسيؤدي ذلك إلى مرحلة (نحن فيها الآن) وهي مرحلة تغيير الوجوه، وسيحدث ذلك في سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان ولبنان، وأيضاً القضاء على كل نشاط أو فصيل مسلح هناك، وسيبدأ الأمر بالقضاء على الحوثيين في اليمن، ثم (على غير ترتيب) الحشد الشعبي في العراق، الفصائل السورية على رأسها فتح الشام (النصرة)، ثم بقية الفصائل الثورية السورية، بقايا داعش في سوريا والعراق، الفصائل الكردية المسلحة كلها، الدعم السريع في السودان، والفصائل المسلحة في ليبيا.
هذه المرحلة ستكون كلها مراحل عسكرية قاسية وعنيفة، وستجري فيها الحرب بسياسة الأرض المحروقة، وستنتهي بالقضاء على جميع الكوادر والقيادات إنهاء كاملًا، ثم يبدأ عهد الاستقرار وربما تجري إعادة الإعمار وفق شرق أوسط جديد تمضي فيه إسرائيل بتنفيذ ما تريد الوصول إليه في فلسطين دون وجود أي خطر يتهدد مشروعها، لا أحد قادر على حمل السلاح، ولا حتى مظاهرة في شارع، أو اعتصام في ساحة، أو تغريدة على تويتر.
ماذا يسعنا أن نفعل اليوم أمام هذا الواقع؟ لا يمكن بهذه العجالة وأثناء الحدث الساخن تحديد ما يجب فعله، ولكن أمام هذا المكر والدهاء والخبث الذي لديهم، لايسعنا إلا أن نقول (وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ).
الأفكار الواردة في التقرير لاتعبر بالضرورة عن رأي المنصة.