خلدون عبد الله يكتب لـ”بوليتكال كيز | Political Keys”: الصين في عيون شرق أوسطية: الآمال والواقع
خلدون عبد الله
ماجستير دراسات استراتيجية ودفاع من جامعة “مالايا” الماليزية، مهتم بقضايا الأمن الدولي والعلاقات الدولية، وباحث غير مقيم في مركز “آسيا والشرق الأوسط للدراسات والحوار”.
لطالما عانى الشرق الأوسط من وطأة الهيمنة الأمريكية، وسياسات واشنطن تجاه المنطقة، التي اقترنت بعجز دول الإقليم عن إحداث تغيير حقيقي، في هذا السياق، يمثل الصعود الصيني – بالنسبة للعديد من الساسة والمحللين – بريق أمل لكسر نفوذ البيت الأبيض، فتتعالى بذلك نداءات بضرورة التحالف مع المحور المضاد، بين المأمول والواقع يسعى المقال إلى دراسة تنامي نفوذ التنين الآسيوي، وتأثيراته على الشرق الأوسط، وكيفية استثماره لصالح المنطقة.
تبدل النظام الدولي وخطر الاستقطاب
لعل أولى تجليات تنامي النفوذ الصيني تتمثل في إرهاصات تبدل النظام الدولي (International System) من الحالة أحادية القطب إلى تعدد الأقطاب بعد أكثر من ثلاثة عقود من الهيمنة الأمريكية شبه المطلقة على مسرح العلاقات الدولية.
تاريخيًّا، ظل النظام المتعدد الأقطاب الأقل استقرارًا والأكثر عرضة لتفجر الصراعات، فعلى سبيل المثال، وبقراءة الحقبة التاريخية بين منتصفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والمتسمة بتعدد القطبية، فقد شهدت هذه الفترة اندلاع العديد من الصراعات الكبرى على غرار حرب السنوات السبع، وحرب البرتقال، وحرب نابليون، وحرب القرم، والحربين العالميتين.
وفي الوقت الذي تدفع فيه بنية النظام الدولي اللاسلطوية/ الأناركية (Anarchy) بالدول نحو التنافس وسباق التسلح، تعرّف الدول الكبرى مصالحها وأمنها القومي في دوائر جيوسياسية تتعدى حدودها، ما يجعل الخارطة العالمية مساحة تنافس محتملة.
ولذلك كانت العديد من حروب القوى العظمى ناتجةً عن تصادم خطوط مصالحها الجيوسياسية في أقاليم وقارات أخرى، مثل نزاع بريطانيا وفرنسا على أمريكا الشمالية في حرب السنوات السبع 1756م-1763م، وعليه فإن أول ما يجب أن تتوقعه دول الشرق الأوسط هو نظام دولي أكثر توتراً.
وبالفعل، بدأت الصين منذ 2013م بتبني سياسة خارجية أكثر فاعلية وتكوين ما يمكن تصنيفه بـ ” ترتيب دولي موازٍ” (International Order) للنظام الدولي الليبرالي، كما رفضت بيكين مؤخراً طلب واشنطن لعقد اجتماع بين وزيري دفاع البلدين ما يعكس قنوط الرئيس تشي جين بينج من جدوى التفاوض مع نظيره بايدن، وربما محاولة إعادة تعريف قواعد التفاوض وفق توازن قوة جديد.
في ظل هذه البنية والإطار التفاعلي، فإن تحوّل أو دخول دول الشرق الأوسط في تحالفات قطبية سيفضي بالضرورة إلى تحول المنطقة إلى ساحة تنافس دولي وانقسام دول الإقليم إلى معسكرين متنافسين، وحتى تجزئة الدول داخلياً إلى تيارات مناصرة لكل طرف، ما يعني اشتعال حروب الوكالة والصراعات الأهلية، مثل حال الشرق الأوسط إبان الحرب الباردة.
الخصوصية الصينية (الاستراتيجيات والحدود)
مثل نظيراتها من القوى الكبرى، تتم صناعة السياسة الخارجية لبيكين بين مركبتين متناقضتين وهما: بنية النظام الدولي وما تفرضه من خيارات، والتفضيلات الداخلية المتولدة من الثقافة الاستراتيجية للنخب الحاكمة في الحزب الشيوعي، وتمثل الثانية الاستراتيجيات والسياسات التي تنتهجها الصين للاستجابة لنواميس النظام الدولي وتحركات القوى الكبرى الأخرى.
فعلى عكس الولايات المتحدة، لا يسعى التنين الآسيوي إلى تعزيز كفته في ميزان القوة الدولي عبر بناء القواعد والتحالفات العسكرية، وإنما عبر إنشاء شبكة مصالح جيوقتصادية، وذلك لأسباب إيجابية وسلبية، فمن الناحية الإيجابية، تحاول إدارة الرئيس تشي المناورة وفتح آفاق تعاون في ملفات التنمية والاقتصاد بعيداً عن دوائر التفوق الأمريكي، والتي بدأ حلفاء واشنطن بالتذمر منها.
وعلى الجانب السلبي، تبدو مقدرة الصين على صناعة تحالفات عسكرية محدودة، إذ تفتقر إلى المتطلبات العسكرية واللوجستية على غرار أسطول البحار العميقة (Blue Water Navy) والقواعد العسكرية التي تتيح لها تكوين الأحلاف وتوفير مظلات أمنية لحلفائها، أو القيام بعمليات عسكرية خارج الديار.
ومن هذا المنطلق تنحصر علاقات بيكين غالباً في مجالات السياسة الأدنى(Low Politics) ما يحد من قدرتها على تعميق علاقاتها إلى المستوى الاستراتيجي، أو التمكن من ملئ فراغ جيوسياسي قد ينجم عن انسحاب قوة كبرى أخرى.
خصوصية أخرى تتمثل في نهج بيكين في التعامل مع الأزمات الدولية، والمغاير لما ضربت عليه واشنطن بالتمكين لطرف على حساب الآخر وفق سياسة ” فرق تسد”، حيث تميل الصين إلى التقارب والموازنة بين طرفي النزاع، كما في الحالة السعودية- الإيرانية، وذلك لما يمثله الاستقرار الدولي من ركيزة أساسية في تأمين سلاسل الإمداد وديمومة النمو الاقتصادي الصيني.
إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، لا تؤتي هذه السياسة أكلها باستمرار، وذلك لصعوبة الالتقاء على منتصف الطريق لتباين توازن القوة بين المتنازعين، وكذا احتمالية ميل بيكين إلى أحدى الأطراف، أو عدم قدرتها على ممارسة دبلوماسية الإرغام (Coercion) إذا تطلب الأمر، ما يفسر إخفاق الوساطة الصينية في إنهاء الحرب في أوكرانيا.
وعلى نفس المنوال، تغيب هذه المقاربة عن السياسة الخارجية الصينية حينما يمسها التهديد، فتنتهج في هذه الحالة مسلكاً مشابهاً للواقعية الغربية (Realpolitik), ففي محيطها الجغرافي تتقارب بيكين مع بيونجيانج في أزمة شبه الجزيرة الكورية، وتدعم باكستان في توتر شبه القارة الهندية.
وبينما يظل مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول أحد أهم محددات العلاقات الخارجية لبيكين، تبقى ديمومة هذه القاعدة أمراً غير مأمول، لا سيما وأن الولايات المتحدة ستسعى غالباً للإطاحة بالأنظمة الموالية للصين، ما يحتم على قيادة الحزب الشيوعي مراقبة الوضع الداخلي في الدول الصديقة وضمان استمرار النخب المقربة منها في الحكم، ما سينعكس بدوره سلباً على الاستقرار الداخلي في الدول المستهدفة.
الخلاصة: كيف يمكن لدول الشرق الأوسط استثمار الصعود الصيني
بدايةً، يجب قراءة الصعود الصيني في سياقات منطقية، والتخلي عن استجداء ضمير عالمي وقوة كبرى منقذة، فمن المفارقات التاريخية أن الولايات المتحدة كانت قد ولجت إلى الشرق الأوسط بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى بصفتها مصلحاً عالمياً يصبو إلى إيقاف الهيمنة الإمبريالية للقوى الأوروبية المتهافتة على تقسيم المنطقة.
مما سبق، يمكن استشراف عدة أوجه يتسنى من خلالها لدول الشرق الأوسط استثمار الصعود الصيني، ففي المقام الأول قد يدفع تنامي النفوذ الصيني الولايات المتحدة نحو إعطاء الأولوية للشرق الأقصى، ومحاولة احتواء صعود التنين الآسيوي، ما قد يخلق فراغاً جيوسياسياً ويخفف من وطأة الهيمنة الأمريكية في المنطقة.
في المقابل وبينما يظل الشرق الأوسط ضمن أولويات القطبين الدوليين، ينبغي على دول المنطقة تبني سياسة خارجية مرنة ومتعددة الأقطاب (multilateralism) عوضاً عن الانجراف في تحالفات مع هذا المعسكر أو ذاك، علاوة على ذلك، يمكن أن يكون للتقارب مع بيكين دورا آخر باعتباره ورقة دبلوماسية للضغط على واشنطن لتصويب العلاقات الأمريكية-الشرق أوسطية.
كما يمكن استثمار استراتيجية الصين في التقارب مع أطراف النزاع بصفتها موازناً في توترات الشرق الأوسط بما يسهم في حلحلتها، كما في الأزمة السعودية-الإيرانية، فعلى نفس المنوال يمكن لبيكين لعب دور إيجابي في التقارب الخليجي-التركي وخلق مصالح مشتركة، وكذا في الأزمات الأخرى المماثلة.
إلا أن ذلك يتطلب في المقام الرئيس قبول مسبق لدى أطراف التوتر، وكذا استيعاب الدور الصيني في سياقه البرجماتي، حتى لا تتحول إلى طرف ثالث يبتز طرفي النزاع، فعلى سبيل المثال سعت بيكين سابقاً إلى توظيف علاقتها مع طهران والرياض للظفر بامتيازات من كلا الطرفين، على غرار توقيع اتفاقيتي تعاون استراتيجي مع الطرفين في 2016 لم تفصلهما سوى بضعة أسابيع.
ختاماً، يظل الحل الشرق أوسطي ذاتيا في المقام الرئيس، بينما يكمن مربط الفرس في استثمار الصعود الصيني في تصويب منهجية التفكير الاستراتيجي في العقل الشرق أوسطي، وإدراك طبيعة النظام الدولي، وقوانينه العامة، بالإضافة إلى خصوصيات الثقافة الاستراتيجية للاعبين الدوليين، وإمكاناتها وحدودها، وكذا في عبقرية الصنعة الدبلوماسية، التي تتسم بالمرونة، والقدرة على اللعب على المتناقضات، وتوظيفها لصالح المنطقة.
المقالات التي تنشرها “بوليتكال كيز | Political Keys” على موقعها الرسمي تعبر عن آراء كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي فريق العمل والتحرير.
عظيم ياخلدوووون
تشكل قطب جديد (روسيا +الصين ) سيساعد الدول التي تعيش تحت ابتزاز قطب (امريكا+أوروبا )