الهند وباكستان: سباق التحالفات وتوازن الردع في ظل التنافس الدولي

بقلم: د. إدريس احميد – صحفي وباحث في الشأن السياسي المغاربي والدولي
بين دولتين كانتا في يومٍ من الأيام كيانًا واحدًا، يستمر التوتر والتنافس بلا هوادة. الهند وباكستان، الخصمان النوويان في جنوب آسيا، لا يعيشان فقط على وقع النزاع المزمن حول إقليم كشمير، بل يقف كلٌ منهما اليوم في محور جيوسياسي متقابل، تُغذّيه تحالفات دولية متشابكة، وطموحات لتثبيت مكانة إقليمية بل ودولية.
تحالفات تحمل أبعادًا أبعد من الإقليم
تُراهن الهند على شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة، التي ترى فيها قوة صاعدة قادرة على موازنة النفوذ الصيني في آسيا. هذا التحالف تعزّز عبر اتفاقيات دفاعية واقتصادية، وشراكات في التكنولوجيا والفضاء، بل وتنسيق وثيق مع إسرائيل في مجالات الدفاع والأمن السيبراني.
في المقابل، تميل باكستان بثقلها نحو الصين، الحليف التقليدي الذي دعمها في مختلف المحطات التاريخية، خاصة في مواجهة الهند. المبادرة الصينية “الحزام والطريق” تمر عبر باكستان، وتُعزز الشراكة بين البلدين اقتصاديًا واستراتيجيًا، بما يشبه التحالف الشامل، خاصة مع فتور العلاقات الباكستانية الأمريكية في السنوات الأخيرة.
بالحديث عن التحالفات… مفارقات المصالح والسياسة
حتى وقت قريب، كانت باكستان تُعد حليفًا مهمًا للولايات المتحدة، عسكريًا واستخباراتيًا واقتصاديًا، خاصة في الملف الأفغاني منذ التدخل السوفييتي عام 1979. بالمقابل، احتفظت الهند بعلاقات استراتيجية قوية مع الاتحاد السوفييتي، وتواصل هذه العلاقة مع روسيا اليوم، عبر تعاون عسكري واسع وعضويتها في مجموعة “بريكس”. المفارقة أن الهند، رغم هذا التاريخ مع موسكو، أصبحت شريكًا مهمًا لواشنطن، خاصة في مواجهة الصين، ما يعكس ازدواجية التحالفات في عالم السياسة والمصالح.
هل كشمير هي السبب الوحيد؟
رغم أن النزاع على كشمير هو الجرح التاريخي الأبرز في علاقات البلدين، إلا أن التوتر اليوم أعمق من قضية جغرافية. فالتنافس على الريادة الإقليمية والتفوّق العسكري والسياسي بات السمة الطاغية. لم يعد الصراع فقط حول من يملك الإقليم، بل من يملك التأثير. تدخلات قوى دولية وإقليمية، ومحاولات فرض موازين قوة جديدة، زادت المشهد تعقيدًا.
نظرة القوى الكبرى: صراع تريده تحت السيطرة
تراقب الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا والصين، هذا التوتر النووي بحذر شديد. فالهند تسعى لأن تكون قوة كبرى في النظام الدولي، وترشّح نفسها لعضوية دائمة في مجلس الأمن. بينما تنظر بعض هذه القوى إلى باكستان بحذر أكبر، كونها دولة نووية إسلامية في منطقة مضطربة، وهو ما يثير توجّسًا لدى بعض صناع القرار الغربيين.
النظرة الغربية، رغم اختلاف المواقف، غالبًا ما تُفضّل دعم الهند لاعتبارات استراتيجية ودينية واقتصادية. في حين تُنظر إلى قوة باكستان بعين القلق، خاصة مع ربط الإسلام—خاصة في الإعلام الغربي—بالاضطرابات والعنف، مما يثير تساؤلات حول مدى استعداد العالم لتقبّل قوة إسلامية نووية صاعدة.
الهند: بين الصعود الاقتصادي والتحالف مع الغرب
الهند اليوم تُقدّم نفسها كنموذج للديمقراطية الآسيوية، ذات الاقتصاد المتنامي، والسوق الضخمة، والتقدم التكنولوجي. هي شريك محوري في تحالفات مثل “كواد” مع اليابان وأستراليا وأمريكا. وبفضل دعم الغرب، تعزز مكانتها في مواجهة الصين، وتحاول أن تكون قطبًا عالميًا لا يقل شأنًا عن الدول الكبرى.
باكستان: دولة مركزية رغم الصعوبات
ورغم أن باكستان تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية، إلا أنها تظل لاعبًا محوريًا في معادلات المنطقة، من أفغانستان إلى الخليج، ومن الصين إلى روسيا. جيشها قوي، وسلاحها النووي حاضر، وتحالفها مع الصين يمنحها ثقلاً استراتيجيًا لا يُستهان به.
الحرب الأخيرة: من استفاد؟
شهدت العلاقات بين البلدين توترًا حادًا بعد الاشتباكات الأخيرة، التي ورغم محدوديتها الميدانية، كانت تحمل رسائل سياسية وعسكرية. الهند استثمرت الحدث لتعزيز سردية “محاربة الإرهاب”، ونالت دعمًا غربيًا. بينما استعادت باكستان دورها الإقليمي كطرف لا يمكن تجاهله، ووسعت حضورها الإعلامي والدبلوماسي، خصوصًا في المحافل الإسلامية والدولية.
تفوق باكستاني ورسائل تتجاوز الحدود
رغم أن الاشتباكات الأخيرة بدت محدودة في الميدان، إلا أن أداء الجيش الباكستاني لفت الأنظار. فقد برزت قدراته التكتيكية في إدارة المواجهة، إلى جانب تفوق واضح لسلاح الجو، الذي استخدم طائرات صينية أثبتت كفاءتها أمام طائرات “رافال” الفرنسية، مما شكّل ضربة دعائية كبيرة للصناعات الدفاعية الفرنسية، ودفع بعض الدول إلى إعادة النظر في اقتناء هذه الطائرات.
المواجهة أعادت إذكاء سباق التسلّح بين الطرفين، وسط مؤشرات على توجه كل من الهند وباكستان لتحديث ترسانتيهما بأسلحة متطورة، في ظل تنافس تتحكم به أطراف دولية. فبينما ترى بعض التحليلات في هذا الصراع حربًا بالوكالة بين الولايات المتحدة والصين، تترسخ صورة الهند كحليف استراتيجي لواشنطن، مقابل باكستان التي تميل بقوة نحو الصين.
أما على المستوى الداخلي، فقد كانت للحرب انعكاسات واضحة. فالهزّة التي تعرّضت لها الهند أضعفت من صورة رئيس الوزراء “ناريندرا مودي” محليًا، في حين ارتفعت شعبية رئيس الوزراء الباكستاني “شهباز شريف” الذي قدّم نفسه كقائد منتصر في لحظة إقليمية حرجة.
مستقبل غامض في رقعة جغرافية شديدة الحساسية
في ضوء الأزمة الأخيرة، بات من الواضح أن مستقبل العلاقات بين الهند وباكستان سيظل رهين الحسابات الجيوسياسية المعقّدة، وتوازنات الردع الدقيقة. فكلا البلدين يدرك أن الصدام المباشر قد تكون عواقبه كارثية، لا سيما في ظل امتلاكهما للسلاح النووي، ولكن في الوقت ذاته، فإن طموح كل طرف لفرض نفسه كلاعب إقليمي ودولي سيُبقي جذوة التنافس مشتعلة.
الهند وباكستان تسعيان، وستواصلان السعي، إلى لعب أدوار أكبر على المستويين الإقليمي والدولي، وهو ما يضعهما تحت مجهر القوى الكبرى، التي باتت تنظر إلى جنوب آسيا باعتبارها ساحة استراتيجية ذات أهمية متزايدة. فالعالم اليوم يتعامل مع هذه الرقعة الجغرافية ليس فقط بوصفها منطقة نزاع تقليدي، بل باعتبارها نقطة تقاطع لمشاريع الهيمنة والتوازن بين الغرب والصين وروسيا.
ومن هذا المنظور، فإن طريقة تعامل القوى الكبرى مع الهند وباكستان ستبقى متباينة؛ فالهند تُمنح مساحة أوسع كشريك اقتصادي وديمقراطي صاعد، بينما تُعامل باكستان بكثير من التحفّظ، رغم أهميتها الجيوسياسية. وستظل هذه الديناميكيات تُعيد تشكيل المشهد في جنوب آسيا، مع كل أزمة أو احتكاك حدودي جديد