مقالات الرأي

التشكيلات المسلحة ودورها في الأزمة الليبية

بقلم: د. إدريس احميد – صحفي وباحث في الشأن السياسي المغاربي والدولي


بداية أحداث فبراير:

في منتصف فبراير 2011، شهدت ليبيا انتفاضة شعبية ضد سلطة الدولة، ضمن موجة ثورات “الربيع العربي”. بدأت الاحتجاجات في شرق البلاد، تحديدًا في بنغازي، حيث كانت الشرارة الأولى للاحتجاجات الشعبية ضد السلطة. هذا الحراك السلمي سرعان ما تحول إلى صراع مسلح، بعدما قوبل بالعنف من قبل قوات الأمن التابعة للدولة، ما أدى إلى انقسام البلاد إلى مناطق متصارعة.

انتشار السلاح في المناطق التي خرجت ضد السلطة:

بدأت المليشيات المسلحة في مناطق الشرق الليبي في السيطرة على مخازن الأسلحة والمعدات العسكرية بعد انسحاب القوات النظامية من بعض المدن والمناطق. هذا التحول نحو العنف أدى إلى انتشار السلاح على نطاق واسع في تلك المناطق، فكانت بنغازي ومحيطها أولى المناطق التي خرجت ضد السلطة، ونجحت في السيطرة على الأسلحة المخزنة في المعسكرات العسكرية.

وبعد ذلك، امتد الحراك إلى عدة مناطق أخرى مثل الزنتان وجبل نفوسة غرب البلاد، وكذلك مدينة مصراتة التي أصبحت من أبرز نقاط المقاومة في الغرب الليبي. في هذه المناطق، سيطر المعارضون على الأسلحة المخزنة في المعسكرات العسكرية، وأصبح السلاح في أيدي الثوار الذين بدأوا بتشكيل كتائب مسلحة تابعة لهم.

تدفق الأسلحة من الخارج:

مع تصاعد الأحداث في ليبيا، بدأت الدول الغربية في التدخل العسكري بشكل تدريجي. ففي الوقت الذي كانت فيه المليشيات المسلحة في شرق وغرب البلاد تنظم نفسها، بدأ المجتمع الدولي في إرسال دعم عسكري، بما في ذلك الأسلحة. وقد عملت بعض الدول على تزويد الثوار بالأسلحة والذخائر، وهو ما ساهم في تعميق الأزمة وزيادة الفوضى الأمنية في ليبيا.

توزيع السلاح من قبل الدولة:

من جانب آخر، في المناطق التي ظلت موالية للسلطة، قامت الدولة بتوزيع الأسلحة على أنصارها في مختلف المناطق، بهدف تعزيز سلطتها واستمرارها في مواجهة المعارضين. هذا التصرف من جانب الدولة أسهم في تصعيد الصراع، وأدى إلى دخول الأسلحة إلى يد القوى الموالية للسلطة في مدن الغرب مثل طرابلس.

أزمة بعد التحرير:

في 20 أكتوبر 2011، تم إعلان “تحرير ليبيا” بعد مقتل قائد السلطة، ولكن مرحلة ما بعد التحرير كانت مليئة بالصراعات المسلحة. المناطق التي خرجت ضد السلطة مثل الزنتان وجبل نفوسة ومصراته، بدأت تكافح لفرض نفوذها على الأراضي التي سيطرت عليها، بينما حاولت الحكومة الانتقالية بقيادة محمود جبريل معالجة الوضع الأمني، لكن التحديات كانت كبيرة. ورغم القرارات الحكومية بحل المليشيات المسلحة وجمع الأسلحة، إلا أن هذه التشكيلات المسلحة تمسكت بحق “حماية الثورة” ولم تلتزم بالقرارات، مما أدى إلى استمرار تفشي الفوضى وتوسع نفوذ المليشيات في مختلف المناطق.

المليشيات: من السلاح الثوري إلى فوضى السيطرة:

منذ بداية الانتفاضة، لعبت المليشيات دورًا رئيسيًا في أحداث البلاد، خاصةً مع انتشار السلاح بين المجموعات المسلحة. في البداية، كان السلاح يعتبر رمزًا للثوار وحماية الثورة. ومع مرور الوقت، تحولت المليشيات إلى قوة موازية للسلطة السياسية، وأصبحت تمارس النفوذ على مؤسسات الدولة، خاصة الأمنية والاقتصادية، ما أدى إلى خلق واقع جديد يتم فيه فرض السلطة بالقوة على حساب المؤسسات الرسمية.

الدور الدولي والتحديات الأمنية:

على الرغم من العديد من المؤتمرات الدولية التي سعت إلى حل الأزمة الليبية، مثل مؤتمرات باريس وبرلين والعديد من المبادرات الأممية، إلا أن التحديات الأمنية تظل قائمة. فكلما كانت هناك محاولة لإعادة بناء الدولة، كانت المليشيات تبرز كعقبة رئيسية. قرارات المجتمع الدولي، بما في ذلك فرض عقوبات على المعرقلين، بقيت حبرًا على ورق، في وقت لا تزال فيه ليبيا تحت تأثير الانقسام السياسي والأمني.

الواقع الحالي:

اليوم، تظل ليبيا تعاني من واقع معقد. فالمليشيات التي كانت في البداية جزءًا من المقاومة ضد السلطة السابقة أصبحت اليوم لاعبين أساسيين في الصراع السياسي والعسكري. رغم بعض المحاولات لتفكيك هذه التشكيلات المسلحة، بما في ذلك عمليات التفاوض التي أجرتها حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، إلا أن الواقع يشير إلى أن تحقيق الاستقرار في البلاد لن يكون ممكنًا إلا من خلال معالجة هذه القضية بشكل جاد.

حكومة الوحدة الوطنية أمام اختبار حقيقي:

حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، التي انتهت ولايتها وفق اتفاق جنيف، تجد نفسها أمام اختبار حقيقي في إثبات قدرتها على إنهاء وجود التشكيلات المسلحة في البلاد. البداية كانت مع جهاز دعم الاستقرار، الذي شكل خطوة أولى نحو معالجة الوضع الأمني في طرابلس. وقد يعتقد البعض أن هذه العملية جاءت في إطار تصفية حسابات بعد الخلافات الكبيرة بين الدبيبة وعبدالغني الككلي، وخاصةً على خلفية التنافس على المناصب والمكاسب السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى اتساع نفوذ الككلي الذي أصبح يشكل تهديدًا مباشرًا لسلطة الدبيبة.

ورغم ما يمكن أن يراه البعض من تداخل المصالح الشخصية في هذه العملية، إلا أن الدبيبة يحتاج إلى التأكيد على أن الهدف الرئيسي هو القضاء على فوضى التشكيلات المسلحة، وتوحيد المؤسسة العسكرية. فهل ستنجح الحكومة في إتمام هذه المهمة مع بقية التشكيلات المسلحة المنتشرة في مدن الغرب، أم أن الأمر مجرد خطوة أولى في صراع آخر؟ الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد المسار الذي ستسلكه ليبيا.

خاتمة:

لم تكن المليشيات في ليبيا مجرد مظهر أمني عابر، بل تحوّلت إلى لاعب سياسي وعسكري رئيسي، معرقل لأي مسار نحو الدولة. ومع كل مبادرة أو محاولة لإعادة الاستقرار، تتصدر المليشيات مشهد التعطيل، ما يؤكد أن معالجة الأزمة الليبية تبدأ أولًا من تفكيك هذه التشكيلات المسلحة وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس سيادة القانون واحتكار الدولة وحدها للسلاح

Political Keys

منصة إخبارية مستقلة، سياسية منوعة، تسعى لتقديم تغطية إخبارية شاملة وفق أعلى معايير المهنية والموضوعية، وأن تكون الوجهة الأولى للمعلومات والتقارير الاستقصائية الخاصة، وأن توفر رؤىً وتحليلاتٍ جديدةً ومعمقةً للقرّاء والمتابعين، تمكنهم من فهمٍ أعمقَ للأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى