خلدون عبد الله يكتب لـ”بوليتكال كيز | Political Keys”: ما بعد العمق الاستراتيجي: السياسة الخارجية الجديدة لتركيا
خلدون عبد الله
ماجستير دراسات استراتيجية ودفاع من جامعة “مالايا” الماليزية، مهتم بقضايا الأمن الدولي والعلاقات الدولية، وباحث غير مقيم في مركز “آسيا والشرق الأوسط للدراسات والحوار”.
تأسست الجمهورية التركيّة في 1924م، عقب سقوط السلطنة العثمانية، في موقع مميز وحرج في آن واحد، حيث تصل بين قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا وتربط بين أقاليم البلقان والشرق الأوسط وحوضي البحرين المتوسط والأسود، في المقابل تمثل الجغرافيا معضلةً وتحديًا في توازنات القوة بين تركيا ودول الأقاليم المجاورة، فعلى سبيل المثال يعد البوسفور نقطة حرجة في التوازن التركي-الروسي في البحر الأسود، وتلعب الجزر دورًا مفصليًّا في التوازن مع اليونان في بحر إيجة.
منذ المهد، رمت الجمهورية الجديدة إلى تعريف نفسها خارج إقليمها الأساسي – الشرق الأوسط – بصفتها دولة غربية لأسباب إيدلوجية تحولت إلى الأبعاد الجيوسياسية في الحرب الباردة وانضمامها للناتو عام 1952م غير أن العقدين المنصرمين شهدا جملةً من التبدلات في صناعة السياسة الخارجية التركيّة أخذت فيهما منحىً مغايرًا.
ففي العقد الأول من الألفية الثالثة، تبنت أنقرة سياسة أكثر فاعلية للتحول إلى قوة إقليمية في الشرق الأوسط ضمن نمط استراتيجي متسق سرعان ما تحول في العقد الثاني إلى سلوك ارتجالي تغيب عنه الحسابات الاستراتيجية في خضم محيط إقليمي ودولي محتدم.
إلا أن الانتخابات الأخيرة وما تمخض عنها من إرساء للتحولات البنيوية والهيكلية في الحكومة التركيّة، وكذا التبدلات الإقليمية والدولية تعطي مؤشرات لصعود نهج استراتيجي جديد تجلى شيء من ملامحه في تحركات الحكومة الوليدة.
صعود وأفول العمق الاستراتيجي
كان فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002م نقطة تحول في السياسة الخارجية لتركيا، فتمحورت السياسة الجديدة حول إعادة إدراك تركيا مكانيًّا وتاريخيًّا بصفتها دولة شرق أوسطية، والاستناد إلى محددات جيوسياسية وجيوثقافية تبلورت في نظرية “العمق الاستراتيجي” كما اصطلح عليها رئيس الوزراء الأسبق أحمد داوود أوغلو، أو “العثمانية الجديدة” (Neo-Ottomanism) كما يعبر عنها المتخصصون.
جيوسياسيًّا، بنى حزب العدالة والتنمية سياسته الخارجية على تعيين الأقاليم المحيطة، ومحاولة التأثير فيها بما لا يخل بميزان القوة أو يؤدي إلى نشوء معضلة أمنية، ولهذا الغرض سعى الحزب إلى تصفير المشاكل مع دول الجوار وتبني دبلوماسية متعددة الأبعاد.
وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص اتخذت أنقرة نهجًا جيوثقافيا في إحياء إرث الإمبراطورية العثمانية بصفته قوة ناعمة، ومفتاحًا لإعادة تعريف علاقتها بدول الإقليم، وبالفعل شهدت الفترة ما بين 2002م-2011م تطور العلاقات التركيّة-الشرق أوسطية بالتزامن مع ازدهار مؤشرات التنمية السياسية والاقتصادية المحلية.
مع انطلاق الربيع العربي تحولت تركيا من سياسة حفظ التوزان الإقليمي إلى محاولة التأثير فيه وتغييره وفق تفضيلات أيدلوجية، ما ترتب عليه إسقاط مبدأ تصفير المشاكل، وتوتر علاقتها مع الأنظمة التقليدية في المنطقة، ودخولها طرفًا في المعضلة الأمنية الإقليمية، ولاسيما مع تطور الحراك الشعبي في دول مثل سوريا وليبيا إلى الصدام المسلح.
كما أدى الفراغ الجيوسياسي الناتج عن الحروب الأهلية في الإقليم إلى صعود جماعات مسلحة متباينة مثل تنظيم الدولة ووحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية، التي صنفتها أنقرة تهديدًا لأمنها القومي، فقامت بتنفيذ عمليات عسكرية في العراق وسوريا والإبقاء على حاميات عسكرية فيها.
دوليًّا، وصلت العلاقات الأمريكية- التركية إلى مستويات غير مسبوقة من التوتر، حيث أنه ضمن حربها ضد داعش، قامت واشنطن بدعم الجماعات الكردية المسلحة شمالي سوريا ما عدته أنقرة تعديًا على أمنها القومي، وإخلالًا بميثاق الدفاع المشترك لدول الناتو، وبلغ التوتر أوجه باتهام انقرة لواشنطن بتدبير محاولة الانقلاب في 2016م ومن ثم أزمة شراء صواريخ S400الروسية في 2019م.
في المقابل، لم يكن التقارب مع روسيا مثمرًا في موازنة الحليف الاستراتيجي الأمريكي، وبدا ارتجاليًّا أكثر منه استراتيجيًا، حيث يحتدم التنافس مع موسكو في البحر الأسود والقوقاز والهلال الخصيب وشمالي إفريقيا، ما يجعل أنقرة بلا غنى عن مظلة الناتو المثقوبة لموازنة التمدد الروسي.
بينما كان المشهد الدولي والإقليمي يتحول إلى صفيح ساخن يطوق تركيا، لم يسلم الوضع الداخلي من الاضطراب والتقلب، فشهد حزب العدالة والتنمية استقالات متتالية ضمن أعضائه وقيادته، وكذا وتبدل نظام الحكم إلى الرئاسي، وما ترتب عليه من إعادة هيكلة بنية الدولة ولوائحها وآلياتها التنفيذية في خضم وضع اقتصادي متدهور.
مستجدات ومؤشرات
بعد تموجات عاتية، يبدو أن المناخات السياسية الدولية والإقليمية والمحلية بدأت تستقر بما يتيح إعادة ضبط دفة السياسة الخارجية لتركيا وتعديل مسارها، فعلى الصعيد الدولي تحولت الحرب في أوكرانيا إلى مركز توازن القوة الدولي الرئيس، محدثة انفراجًا نسبيًّا في الشرق الأوسط، كما دفعت الحرب بواشنطن نحو خفض حدة خطابها تجاه أنقرة، لعوز الناتو إلى الموقع الجغرافي لتركيا، وكونها طرفًا مقبولًا لدى الروس والأوكرانيين.
إقليميًّا، انتحت القوى الشرق أوسطية نحو التفاهم على ملفات الصراع في المنطقة، ما قد يسهم في تهدئة المعضلة الأمنية، حيث شهدت الأشهر الماضية تقدمًا في المفاوضات السعودية-الإيرانية، وإعادة عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، في الوقت الذي تجري فيه مفاوضات إقليمية ودولية لمحاولة تسوية الصراع في بلاد الشام.
بينما على المستوى الداخلي، وبعد مخاض عسير، كانت الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في تركيا مفصلية في حسم الانقسام على مستوى الأحزاب السياسية، وترسيخ نفوذ الرئيس أردوغان الذي يبدو أنه بدأ بإعادة إنتاج الحزب ومنهجية صناعة القرار فيه بما في ذلك رؤية السياسة الخارجية التي أسماها بـ “القرن التركي” في حملته الانتخابية.
حيث أوكلت وزارة الخارجية إلى رئيس جهاز المخابرات الأسبق “هاكان فيدان” والذي كان خلال 13 عامًا يشغل فيها المنصب، أحد أبرز أعمدة الدبلوماسية التركية، ومسؤولًا عن المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، وعملية المصالحة مع دول الشرق الأوسط، لاسيما مصر ودول الخليج على وجه الخصوص.
تعيين آخر لفت الأنظار كان عودة محمد شيمشك لوزارة المالية، الرجل الذي عمل سابقًا مستشارًا ماليًّا للسفارة الأمريكية في أنقرة قبل تعيينه وزيرًا للمالية 2009م-2015م ونائبًا لرئيس الوزراء 2015م-2018م يعرف بسياسته المنسجمة مع النظام المالي الدولي، وظل يعمل بعد استقالته مستشارًا خاصًا لمجموعات استثمارية خليجية، وبالتالي تحمل إعادة تعيينه وعودًا بفرص استثمارية، واقتصاد أكثر انفتاحًا.
محددات السياسة الخارجية الجديدة “القرن التركي”
مما سبق يمكن استقراء التحول وملامح السياسة الخارجية الجديدة لتركيا ” القرن التركي” والتي تصبو إلى جعل تركيا قوة إقليمية حميدة، وقوة وسطى فاعلة في النظام الدولي.
في المقام الأول، من المتوقع عودة تركيا لمبدأ حفظ توازنات القوة في الأقاليم المجاورة بدلًا عن محاولة ترجيح كفة معينة، في سبيل ذلك ستتبنى الحكومة الجديدة سياسة خارجية متعددة الأبعاد متوازنة بين الشرق والغرب، مع بقائها عضوًا في المظلة الأمنية الغربية، والسعي للانضمام إلى مؤسسات دولية على غرار منظمة بريكس (BRICS) بما يسهم بتنويع العلاقات والخيارات الاستراتيجية لأنقرة ويعزز موقفها ضمن الناتو.
ومن المرجح أن ترتكز صناعة السياسة الخارجية الجديدة على العامل الجغرافي وموقع تركيا الاستراتيجي بين الشرق والغرب باعتباره مفتاح تحقيق الخصوصية الدبلوماسية لأنقرة (Niche Diplomacy) والعنصر الذي يتيح لها لعب دور الوسيط والمقارب بين الطرفين.
وبالفعل نجحت الوساطة التركية في التوصل إلى اتفاق بين موسكو وكييف للسماح بتصدير الحبوب العالقة في موانئ البحر الأسود، وجرت مراسيم توقيع الاتفاقية في إسطنبول في مرحلتين، كانت أولاهما بين وزيري الدفاع الروسي والتركي، ومن ثم بين وزير الدفاع التركي ووزير البنية التحتية الأوكراني، وبحضور الأمين العام للأمم المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، تمثل الجغرافيا ورقة ضغط لانتزاع المزيد من الامتيازات من الحلفاء الغربيين، مثل مساومة أنقرة بورقة الموافقة على عضوية السويد في حلف الناتو مقابل قيام الأخيرة بتسليم طالبي اللجوء لديها ممن تضعهم تركيا في قائمة المطلوبين، وكذا اشتراطها على الولايات المتحدة تزويدها بطائرات مقاتلة من طراز F16 وتطوير إمكانات الطائرات السابقة.
على المنوال ذاته، من البديهي عودة مبدأ تصفير المشاكل كمحدد رئيسي للسياسة الخارجية، ولاسيما على الصعيد الإقليمي، ولكن وفق أطر جيوسياسية وبرجماتية بحتة، بعيدًا عن المقاربة الجيوثقافية التي اتسمت بها سياسة حزب العدالة والتنمية سابقًا وأفضت إلى تبني أنقرة تقاربات ذات سمة أيدلوجية أسهمت في توتر علاقاتها بدول المنطقة.
وجرت في الشهرين الماضيين تحركات دبلوماسية مكثفة للحكومة الجديدة، فاستضاف فيدان نظيره الأردني أيمن الصفدي مطلع تموز/ يوليو الماضي، والذي شهد أيضًا إعادة تعيين سفراء بين تركيا ومصر، كما يزور وزير الخارجية التركي العراق في محاولة لمناقشة القضايا الحرجة بين البلدين يتصدرها ملف حزب العمال الكردستاني.
وعلى المنوال ذاته، تبرز بوادر التهدئة مع دول الخليج العربي، بعد إيفاد شيمشك ومن ثم زيارة أردوغان للرياض وأبوظبي، والتي تفتح المجال لنمو العلاقات الدبلوماسية لاسيما الملف الاقتصادي، وتبشر بجذب استثمارات خليجية تزيد من سيولة وتدفق العملة الصعبة واستقرار الليرة التركية.
ختامًا، بعد عقد من الاضطراب، تعيد إدارة الرئيس أردوغان ترتيب أوراق سياستها الخارجية وفق أولويات حفظ توازن القوة في الأقاليم المجاورة، وتصفير المشاكل معها والتجسير وفق محددات جيوسياسية وجيوقتصادية بعيدًا عن السياقات الجيوثقافية للعمق الاستراتيجي/ العثمانية الجديدة.
كما تحاول تعزيز مكانتها العالمية، بصفتها قوة متوسطة عبر تفعيل مكانتها الجغرافية سياسيًّا ولعب دور الوسيط بين الشرق والغرب، وكذا تعدد أبعاد سياستها الخارجية بين عضويتها في الناتو والمعسكر الغربي، والانفتاح على علاقات ومؤسسات دولية جديدة.
المقالات التي تنشرها “بوليتكال كيز | Political Keys” على موقعها الرسمي تعبر عن آراء كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي فريق العمل والتحرير.