مقالات الرأي

المبادرة العربية في غزة: حلقة مغلقة لسلام مستحيل ودور عربي يتراجع

بقلم: خلدون عبد الله – ماجستير دراسات استراتيجية ودفاع من جامعة “مالايا” الماليزية، مهتم بقضايا الأمن الدولي والعلاقات الدولية، وباحث غير مقيم في مركز “آسيا والشرق الأوسط للدراسات والحوار”.

نشر مبعوث الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط، “ستيف ويتكوف”، على صفحته على منصة “إكس”، نقدًا لاذعًا لردّ حماس على المبادرة الأمريكية لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، واصفًا إيّاه بـ”غير المقبول بتاتًا”.
المقترح، الذي تضمّن قيام المقاومة الفلسطينية بإطلاق سراح نصف الأسرى الأحياء، وتسليم جثامين نصف المتوفين، مقابل هدنة لمدة 60 يومًا يتم خلالها التفاوض على بقية الملفات، قوبل بردٍّ أكثر تفصيلًا من حماس، التي اقترحت وضع آلية متسلسلة للإفراج عن الأسرى، مع اشتراط انسحاب إسرائيلي وفتح للمعابر يتيح حرية العبور للناس والمساعدات والبضائع.
يبدو جليًّا أن الجدل حول الآليات التنفيذية للهدنة والمفاوضات القادمة، يتّجه نحو المزيد من التعقيد، خاصة مع الانحياز الأمريكي لتل أبيب، وعدم استعداد واشنطن لوضع أي ضمانات على تنفيذ البنود، الأمر الذي يدفع بالمقاومة الفلسطينية نحو المزيد من التوجّس، المعزز بتجربة الخرق الإسرائيلي للهدنة السابقة.
أمام انسداد الأفق، تنبلج أسئلة عمّا آلت إليه المبادرة العربية، وعن تواريها عن المشهد، وإذا ما كان هناك من سبيل إلى إعادة طرحها من جديد. ولعل الإجابة عن هذه الاستفسارات تتركّز في فحوى المبادرة نفسها، ومدى جدواها، وإمكانية تطبيقها.

المبادرة العربية: الجذور والتفرّعات


جاءت المبادرة العربية، وبنودها، امتدادًا وتطورًا لمجموعة من المبادرات والخطوات خلال الأعوام الفائتة. ففي عام 2002، خرج مؤتمر القمة العربية في بيروت ببيان انتهجت صياغته لهجة شديدة ضد إسرائيل، إلا أن بنوده تضمّنت إمكانية الاعتراف الكامل بالاحتلال، وتطبيع العلاقات معه، في حال إقراره بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، وتراجعه إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967.
لاحقًا، وعلى مدى عقدين تاليين، شهدت جهود التطبيع تقدمًا كبيرًا — ولا سيّما ضمن الاتفاق الإبراهيمي 2020 — في مقابل تراجع القضية الفلسطينية، وكذا إمكانية انتزاع المطالب العربية، بحسب بيان بيروت. في السياق ذاته، جاء طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ليعمّق الشرخ بين فكرة السلام وواقع الصراع المتفاقم، خاصة بعد ردّ الفعل الإسرائيلي غير المتناسب، وحرب الإبادة التي يخوضها جيشها حتى اللحظة.
بالرغم من ذلك، تمت إعادة تدوير المبادرة العربية بقوالب جديدة. فكانت المبادرة المصرية، في ديسمبر/كانون الأول 2023، بمقترح هدنة من ثلاث مراحل: تبدأ بوقف إطلاق النار، وتبادل مرحلي للأسرى، وتنتهي بسلام مقابل إنشاء حكومة تكنوقراط لإدارة قطاع غزة، والإشراف على المساعدات الإنسانية، وإعادة الإعمار. وقد قوبلت بتحفّظ إسرائيلي وامتعاض من جانب السلطة الفلسطينية، التي ترفض فكرة إقامة حكومة وفاق وطني، وترى في نفسها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وقضيته.
بالتوازي مع المبادرة المصرية، طرحت السعودية مشروع سلام يتصل أيضًا بالمبادرة العربية 2002. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، دعت الرياض إلى عقد قمة عربية-إسلامية، لطرح مبادرة سلام على أساس حلّ الدولتين، وتمخض عن القمة تشكيل لجنة وزارية مشتركة، برئاسة وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، ونظرائه في كل من الأردن، ومصر، والبحرين، بالإضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية. لاحقًا، أعادت المملكة طرح ذات محددات القمة الإسلامية، في مبادرتها في يناير/كانون الثاني وسبتمبر/أيلول 2024، لكن دون أي تقدّم فعلي في ظل صراع وجودي يُخاض على الأرض.

مع هذه التعقيدات، خرجت القمة العربية في القاهرة، مارس/آذار 2025، بذات الخطوط العريضة للمبادرتين المصرية والسعودية، وبعد مضي أكثر من ستة أسابيع على إمضاء اتفاق لوقف النار بين حماس وإسرائيل. وبينما تضمّنت المبادرة الأمريكية بعض ملامح المبادرة المصرية — إذ كانت مصر، بالإضافة إلى قطر، أطرافًا وسيطة — ومنها التقسيم المرحلي للهدنة وعملية تبادل الأسرى، تباينت الرؤية الأمريكية — المنحازة لإسرائيل — بصورة جذرية مع التفضيلات العربية لإخراج المشهد في القطاع ما بعد الحرب، ما يعني أن قمة القاهرة كانت بدرجة رئيسية محاولة خلق توازن عربي موازٍ للضغط الأمريكي، وتحجيم واشنطن للعامل العربي في معادلة المفاوضات، والذي تطوّر إلى إقصائه بصورة شبه كاملة بعد الخرق الإسرائيلي للهدنة، بعد 14 يومًا من قمة القاهرة.
أما الفشل الأكبر، فكان في عدم قدرة الدول العربية على منع إسرائيل من عرقلة سفر اللجنة الوزارية العربية — المنبثقة عن القمة الإسلامية 2023 — إلى رام الله، واللقاء بالرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وتهديدها بإغلاق المجال الجوي أمام رحلتها المقرّرة في الأول من يونيو/حزيران الجاري. ما دفع بأعضاء اللجنة إلى عقد اجتماعهم مع السلطة الفلسطينية عبر المنصات الافتراضية، ومن ثمّ الخروج ببيان إدانة، لا يرتقي لمستوى التعنّت الإسرائيلي.
أسباب الفشل العربي
مما سبق، يمكن استخلاص مجموعة من الأسباب التي أدّت إلى فشل مبادرات السلام وتراجع الدور العربي، والتي يمكن تلخيصها في ثلاث مستويات تراتبية: على صعيد بنود المبادرة وإجراءاتها، وعلى مستوى سياقاتها ومنهجيتها، وأخيرًا في دوافعها الاستراتيجية.


أولًا: البنود المقترحة


اشتملت المبادرة العربية، بمساعيها وفعالياتها وأطرافها المتنوعة، على العديد من النقاط غير المنطقية أو القابلة للتطبيق. فعلى سبيل المثال، طرحت مصر فكرة إنشاء حكومة تكنوقراط لإدارة قطاع غزة ما بعد الحرب، وهو حل يصطدم أولًا برفض السلطة الفلسطينية لوجود ممثل موازٍ للشعب الفلسطيني، كما أنه يواجه صعوبة إقصاء حماس عن المشهد في القطاع.
وبين هذين الأمرين، يظل إنشاء حكومة وفاق وطني أكثر تعقيدًا، وربما أقرب إلى المستحيل، حيث وعلى مدى 29 عامًا، ظلت جميع محاولات التقارب بين حماس وفتح تبوء بالفشل، بداية بانتخابات 2006، وما تلاها من اتفاق مكة 2007، مرورًا بمصالحة صنعاء 2008، ومحاولات تسوية في الأعوام 2011، 2012، 2014، 2017، وصولاً إلى اللقاء الأخير في بكين 2024.
كما تتمسك الدول العربية بسراب “حل الدولتين”، الذي وُلد ميتًا في أوسلو 1993، في ظل غياب نية إسرائيلية جادة حينها، ويبدو اليوم أبعد من أي وقت مضى، مع وجود الحكومة الأكثر يمينية وتطرفًا في تاريخ الكنيست، وتوسع الاستيطان بما يتجاوز الحدود المتنازل عنها.
في المقابل، ووفقًا لإحصاءات المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، لا يعبر حل الدولتين عن مزاج غالبية الشعب الفلسطيني، الذي يرفضه بنسبة الثلثين. وتناهض حماس، الطرف الرئيسي في الحرب الدائرة، هذا الحل، وتعتبره ترسيخًا للاحتلال، وبالتالي ترفض طرحه بنداً أو محدداً في أي مفاوضات.


ثانيًا: الآليات والإجراءات التنفيذية


من أبرز نقاط الضعف في المبادرة، افتقار الدول العربية لأدوات تنفيذية، أو ضمانات كافية لإمضاء ببنود المبادرة. فلا تمتلك الدول العربية علاقات دبلوماسية مؤثرة مع طرفي النزاع تمنحها دور الوسيط الفاعل، ولا هي تملك أدوات الضغط العسكري أو الاقتصادي القادرة على فرض الالتزام، أو ترجيح كفة الميزان نحو رؤيتها.


ثالثًا: المنهجيات


منهجيًّا، تحاول المبادرة العربية الوقوف على أرضية متوسطة بين الأطراف، لكن في ظل غياب أرضية مشتركة فعلية، انتهت إلى التموضع خارج الزمان والمكان السياسي للصراع. كما أن مواقف الدول العربية تميل إلى التقرّب من السلطة الفلسطينية وتهميش حماس، رغم أن الأخيرة هي الطرف الفاعل ميدانيًا، ما يُضعف من فاعلية المبادرة.


رابعاً: الأبعاد والمولدات الاستراتيجية


استراتيجيًا، لا تعكس المبادرة العربية تضامنًا عربيًا حقيقيًا، إنما مساعي الدول لضمان إخراج المشهد بما لا يضر بمصالحها الوطنية والجيوسياسية. فدول الخليج، مثلًا، تحاول تحقيق التوازن بين دعمها الرمزي للقضية الفلسطينية، ومساعيها نحو تحالفات أمنية مع واشنطن في ظل الاتفاق الإبراهيمي. بينما تسعى دول مثل مصر والأردن إلى تجنّب أي سيناريو تهجير من غزة إلى أراضيها، لما يحمله من تهديدات ديموغرافية وأيديولوجية.


الخلاصة


ختاماً، تُعد المبادرة العربية لإنهاء الحرب في غزة، إعادة إنتاج لمبادرة قمة بيروت 2002، ولكن بسقوف أدنى، وموقف تفاوضي أضعف. وتصطدم هذه المبادرة، بالعديد من المعوقات والتحديات على صعيد بنودها، وآليات تنفيذها، ومنهجيتها في قراءة المشهد، وكذا دوافعها الاستراتيجية التي لا تعكس تضامنًا أصيلًا مع القضية الفلسطينية.

Political Keys

منصة إخبارية مستقلة، سياسية منوعة، تسعى لتقديم تغطية إخبارية شاملة وفق أعلى معايير المهنية والموضوعية، وأن تكون الوجهة الأولى للمعلومات والتقارير الاستقصائية الخاصة، وأن توفر رؤىً وتحليلاتٍ جديدةً ومعمقةً للقرّاء والمتابعين، تمكنهم من فهمٍ أعمقَ للأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى