مقالات الرأي

الأزمة الليبية والصحوة الشعبية

قراءة في الأسباب والسياقات

بقلم: د. إدريس احميد – صحفي وباحث في الشأن السياسي المغاربي والدولي

تدخل الأزمة الليبية عامها الرابع عشر، دون أن ينجح الليبيون في التوصل إلى رؤية وطنية جامعة أو مشروع تأسيسي حقيقي يضع أسس الدولة. في هذه القراءة، نحاول مقاربة أسباب هذه الأزمة الممتدة، معتمدين على ما راكمناه من متابعة دقيقة للشأن الليبي عبر مقالات وتحليلات وتصريحات متعددة.

إن تحديد أسباب الأزمة لا ينفصل عن ضرورة الاعتراف بمواطن الخلل، في ظل واقع معقّد بدأت ملامحه منذ عام 2011، مرورًا بالصراعات المسلحة، والانقسامات، والتدخلات الإقليمية والدولية. لهذا، فإن الدور الحقيقي لحَمَلة المصلحة الوطنية يقتضي الاعتراف بالمسؤولية، والانخراط في مصالحة وطنية جادة، تستند إلى الوعي بأن تأخر البلاد عقودًا، يفرض علينا إما النجاة جميعًا أو الغرق جميعًا. وهنا، يبرز البعد الاجتماعي بوصفه الركيزة الأولى لبناء وعي وطني، يؤكد أن ما يجمع الليبيين أكثر مما يفرقهم.

أولًا: أسباب الأزمة الليبية

  1. انتشار السلاح بعد الحرب (20 أكتوبر 2011):
    رفضت أطراف مناطقية تسليم السلاح بذريعة حماية الثورة، في حين انصرف “الثوار الحقيقيون” إلى حياتهم، ليتركوا المجال لمن تسلقوا المشهد وتحكموا في مفاصل القوة.
  2. رفض نتائج الانتخابات (2012):
    منذ البداية، رفضت الميليشيات وبعض القوى المتحالفة معها نتائج انتخابات 7 يوليو 2012، وسيطرت بالقوة على المؤتمر الوطني العام، لتبدأ أولى مراحل اختطاف الدولة، مرورًا بقانون العزل السياسي وخطف رئيس الوزراء علي زيدان.
  3. إشعال الحرب عقب انتخابات 2014:
    رفض تيار الإسلام السياسي نتائج انتخابات مجلس النواب، وأشعل حربًا لتصفية الميليشيات الأخرى، فدمرت البنية التحتية، ومنها مطار طرابلس، حيث أُحرقت قرابة 20 طائرة.
  4. التدخل الدولي المتواطئ:
    رغم صدور قرارات دولية بحل الميليشيات، لم تُنفذ، ما يعكس تواطؤًا دوليًا. فقد مُنحت شرعية داخلية وخارجية لأسماء ارتبطت بالجريمة والسجون، وسيطروا على المال العام والمؤسسات دون مساءلة دولية.
  5. دور الأمم المتحدة (منذ 2011):
    منذ قراري مجلس الأمن 1970 و1973، تُدار ليبيا تحت مظلة الأمم المتحدة، وقد تعاقب على ملفها أكثر من عشرة مبعوثين. لم يحقق أغلبهم اختراقًا يُذكر سوى برناردينو ليون، ومارتن كوبلر (اتفاق الصخيرات 2015)، وستيفاني ويليامز (اتفاق جنيف 2021). جميعها حلول مؤقتة لا تعكس توافقًا وطنيًا حقيقيًا.
  6. حكومة الوفاق واتفاقياتها:
    وقّعت حكومة الوفاق أثناء الحرب على اتفاقيتين مع تركيا، إحداهما عسكرية والأخرى تمنحها حقوق التنقيب عن الغاز، دون تفويض شعبي أو مؤسسي.
  7. حكومة الوحدة الوطنية وخطوات مشبوهة:
    جاءت حكومة الوحدة الوطنية إثر آلية مشكوك فيها (لجنة 75)، وتم منحها الثقة لتنفيذ ثلاث مهام أساسية: التحضير للانتخابات، توحيد المؤسسة العسكرية، وتخفيف المعاناة الاقتصادية. لكنها أخفقت، وأُلغيت الانتخابات بذريعة “القوة القاهرة”، ضاربة عرض الحائط بإرادة 2.8 مليون ناخب.
  8. التجاذب السياسي بعد 2021:
    سحب مجلس النواب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، وكلف حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، التي لم تتمكن من دخول العاصمة. زاد الأمر تعقيدًا مع ترشح الدبيبة رغم تعهده بعدم الترشح.
  9. حوارات دون نتائج ملموسة:
    انتهت لجنة 6+6 باتفاق في بوزنيقة (يونيو 2023)، ثم جاء المبعوث عبد الله باتيلي باقتراح لجنة جديدة، أعقبتها لجنة العشرين بقيادة المبعوثة العاشرة هانا تيتيه، التي قدمت أربعة مسارات، لكنها لم تجد توافقًا، باعتبار أنها إعادة تدوير لأفكار سابقة دون آلية تنفيذ واضحة.

ثانيًا: الواقع الاقتصادي المعقد

ليبيا، رغم ثرواتها، ترزح تحت أزمات اقتصادية خانقة، ناتجة عن:

الاعتماد على النفط وسط تحديات فنية وأمنية تعيق الإنتاج.

تضخم الجهاز الإداري، وتوظيف عشوائي دون كفاءة أو حاجة سوق العمل.

فشل السياسات الاقتصادية في تنويع مصادر الدخل.

غياب دعم حقيقي للقطاع الخاص.

تخصيص ميزانيات ضخمة للتشكيلات المسلحة، ما قوّض قيام مؤسسات الدولة.

ثالثًا: المؤسسة العسكرية بين الإهمال والتجاهل

رغم دور الجيش الليبي في محاربة الإرهاب واستعادة الأمن بشرق البلاد ووسطها وجنوبها، إلا أن الحكومات تجاهلت هذا الدور، واختارت التعامل مع التشكيلات المسلحة، متجاهلة خطرها على وحدة البلاد ومستقبلها.

رابعًا: صحوة الشارع الليبي

بعد أربع عشرة سنة من المعاناة، انطلقت موجة احتجاجات شعبية تطالب بإنهاء كافة الأجسام السياسية الحالية. إنها صرخة من أجل الكرامة، في وجه سلطة فاشلة. وقد أثبت الشعب الليبي أنه قادر على كسر الحواجز، والتعبير عن رفضه لواقع مرير.

لقد أصبح واضحًا أن التعويل على الأمم المتحدة لن يُخرج ليبيا من أزمتها، بل يُسهم في إطالة أمدها. فالعالم يتساءل: أين الليبيون؟ هل هؤلاء المتصدرون للمشهد يمثلون حقًا الشعب؟ لماذا شعب غني كهذا يعيش الفقر وانعدام الاستقرار؟

الخلاصة:

أمام الليبيين خياران لا ثالث لهما:

المسار الديمقراطي الحقيقي، بانتخابات نزيهة، تطيح بالأجسام الحالية.

أو تأييد المؤسسة العسكرية والأمنية لفرض الأمن وإنهاء فوضى السلاح خارج الشرعية.

والأمل معقود على وعي الشعب، وصحوة الشارع، لإنقاذ ليبيا من واقعها المنهك، نحو بناء دولة تستحقها الأجيال القادمة.
** إ.إدريس احميد ..صحفي وباحث في الشأن السياسي المغاربي والدولي!!

Political Keys

منصة إخبارية مستقلة، سياسية منوعة، تسعى لتقديم تغطية إخبارية شاملة وفق أعلى معايير المهنية والموضوعية، وأن تكون الوجهة الأولى للمعلومات والتقارير الاستقصائية الخاصة، وأن توفر رؤىً وتحليلاتٍ جديدةً ومعمقةً للقرّاء والمتابعين، تمكنهم من فهمٍ أعمقَ للأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط والعالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى