ترجمات

لماذا لا تستطيع أوروبا توحيد عملها العسكري؟

بقلم : ستيفن إم والت
المصدر: مجلة “فورن بوليسي” الأمريكية
ترجمة: بوليتكال كيز

لقد دق الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أجراس الإنذار في أوروبا عندما قال أمام تجمع انتخابي إنه سيشجع روسيا على “فعل ما تشاء” تجاه أي دولة يرى أنها متأخرة في الوفاء بالتزاماتها الدفاعية، وكانت الدول الأوروبية تشعر بالقلق بالفعل بشأن احتمال ولاية ترامب الثانية، وقد أرسلت هذه التصريحات الأخيرة هذه المخاوف إلى مدار عالٍ.

وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فان دير لاين” لصحيفة فايننشال تايمز بعد بضعة أيام إن أوروبا تواجه عالماً “أصبح أكثر قسوة” و”علينا أن ننفق المزيد، وعلينا أن ننفق بشكل أفضل.”

ولكن يبقى السؤال: هل تفعل أوروبا ما يكفي لتكون قادرة على الدفاع عن نفسها؟ إن الشكاوى من اعتماد الدول الأوروبية بشكل مفرط على الحماية الأمريكية وعدم رغبتها في الحفاظ على قدرات دفاعية كافية لها تاريخ طويل، كما أن نداء التنبيه الذي أطلقه الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022 لم يسفر بعد عن زيادة كبيرة في القوة العسكرية الأوروبية القابلة للاستخدام، نعم ينفق أعضاء الناتو الآن المزيد من الأموال، وقد سمح الاتحاد الأوروبي مؤخرًا بتقديم 50 مليار يورو إضافية كدعم مالي لأوكرانيا.

لكن قدرة أوروبا على الحفاظ على قوات كبيرة في الميدان لأكثر من بضعة أسابيع تظل تافهة، فهي لا تزال تعتمد على الولايات المتحدة في بعض القدرات الحيوية، وبعض أعضاء الناتو لديهم سبب للتساؤل عما إذا كان شركاؤهم قادرين على فعل الكثير للمساعدة إذا كانوا هم الهدف الثاني للهجوم، حتى لو حاول هؤلاء الشركاء.

ومن المؤكد أن خطاب المسؤولين الأوروبيين أصبح أكثر حدة، فقد حذر وزير الدفاع الدنماركي “ترويلز لوند بولسن” مؤخرًا من أن روسيا قد تختبر شرط الدفاع المشترك لحلف شمال الأطلسي “في غضون ثلاث إلى خمس سنوات”، ويعتقد دبلوماسي كبير آخر في الناتو أنه “لم يعد لدينا ترف الاعتقاد بأن روسيا ستتوقف مع أوكرانيا”.

ووفقاً لدبلوماسي كبير آخر، فإن “نية روسيا وقدرتها” على مهاجمة إحدى دول الناتو بحلول عام 2030 كانت “متوافقة إلى حد كبير” داخل الحلف في هذه المرحلة، ولأن الأمر قد يستغرق من أوروبا 10 سنوات أو أكثر لتطوير قدرات كافية خاصة بها، فإن أنصار الأطلسي المتعصبين يريدون إبقاء العم سام ملتزماً بقوة بأوروبا على الرغم من كل المطالب المتنافسة على الوقت والاهتمام والموارد الأمريكية.

هل يمكن لأوروبا توحيد جهودها؟ هناك نظريتان ذات صلة، الأولى هي نظرية توازن القوى، التي تتوقع توحيد الدول الأوروبية في مواجهة تهديد خارجي، الزيادات في الإنفاق الدفاعي والانضمام إلى حلف شمال الأطلسي يشيران إلى استعداد أوروبا لتحمل المسؤولية الدفاعية، ولكن هناك نظرية أخرى تشير إلى تهرب الدول من المسؤولية، حيث يعتمد البعض على جهود الآخرين ويعرض التحالف للتقسيم وفقًا للمصالح الأنانية، التحدي يكمن في تحقيق توازن بين هاتين النظريتين لضمان استقرار وأمان أوروبا.

وتؤكد هاتان النظريتان المشهورتان معًا المعضلة التي يواجهها حلف شمال الأطلسي اليوم، والنبأ الطيب هنا هو أن الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي يتمتعون بقدرات قوة كامنة أكبر كثيراً من تلك التي تتمتع بها روسيا.

ويبلغ عدد سكانها ثلاثة إلى أربعة أضعاف عدد السكان، واقتصاداتها مجتمعة أكبر بعشر مرات من اقتصاد روسيا، لا تزال العديد من الدول الأوروبية تمتلك صناعات أسلحة متطورة قادرة على إنتاج أسلحة ممتازة، على سبيل المثال، ألمانيا التي كانت تمتلك قوات برية وجوية هائلة خلال المراحل الأخيرة من الحرب الباردة.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي وحدهم ينفقون ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف ما تنفقه روسيا كل عام على الدفاع، وحتى لو سمحنا بارتفاع تكاليف الأفراد، وازدواجية الجهود، وغير ذلك من أوجه القصور، فإن أوروبا لديها ما يكفي من إمكانات القوة لردع أو هزيمة أي هجوم روسي، على افتراض أن القدرة الكامنة يتم تعبئتها وقيادتها على النحو اللائق.

والمؤسسة العسكرية الروسية ليست عملاقاً: فرغم تحسن أدائها العسكري وقدرتها الإنتاجية الدفاعية بشكل كبير منذ بداية الحرب الأوكرانية، فإنها واجهت صعوبة بالغة في التغلب على القوات الأوكرانية الأقل عدداً والأقل تسليحاً، إن الجيش الذي يستغرق أشهراً للاستيلاء على بخموت أو أفدييفكا ليس على وشك شن حرب خاطفة ناجحة ضد أي شخص آخر.

وعلى الجانب الآخر السلبي، تظهر الجهود المستمرة لتشكيل قوة دفاع أوروبية قدرات تواجه عقبات كبيرة، فبدايةً، لا يتفق أعضاء حلف شمال الأطلسي الأوروبيين على مستوى مشكلاتهم الأمنية الرئيسية، وبالنسبة لدول البلطيق وبولندا، يظهر بوضوح أن روسيا تشكل الخطر الرئيسي.

أما بالنسبة لإسبانيا أو إيطاليا، فإن روسيا تمثل تحديًا بعيد المنال في أحسن الأحوال، بينما تشكل الهجرة غير الشرعية تحديًا أكبر، على عكس بعض المحللين، أرى أن هذا الوضع لا يمنع أوروبا من إقامة دفاع فعّال ضد روسيا، ولكنه يجعل قضايا تقاسم الأعباء والتخطيط العسكري أكثر تعقيدًا، وإقناع البرتغال بالمشاركة الفعّالة في مساعدة إستونيا سيكون تحديًا يتطلب الإقناع الجاد.

ثانياً، يواجه أولئك الذين يريدون لأوروبا أن تبذل المزيد من الجهد معضلة دقيقة، إذ يتعين عليهم أن يقنعوا الناس بوجود مشكلة خطيرة، ولكن يتعين عليهم أيضاً أن يقنعوهم بأن حل المشكلة لن يكون مكلفاً أو صعباً للغاية، فإذا حاولوا حشد الدعم لتعزيز قدرات روسيا الدفاعية من خلال المبالغة في تقدير القدرات العسكرية الروسية وتصوير فلاديمير بوتن باعتباره رجلاً مجنوناً يحمل طموحات غير محدودة، فإن التحدي الذي تواجهه أوروبا قد يبدو مستحيلاً، وسوف يتنامى إغراء اللجوء إلى العم سام.

ولكن إذا كان من المعتقد أن قوة روسيا وطموحاتها أكثر تواضعاً وبالتالي يمكن التحكم فيها، فسوف يكون من الصعب إقناع الجماهير الأوروبية بتقديم تضحيات كبيرة الآن والحفاظ على الجهود الجادة مع مرور الوقت، ومن أجل إنجاح قدر أعظم من الحكم الذاتي، يتعين على الأوروبيين أن يؤمنوا بأن روسيا تشكل دولة خطيرة، ولكن يتعين عليهم أيضاً أن يؤمنوا بقدرتهم على التعامل مع المشكلة حتى لو لم تبذل الولايات المتحدة أي جهد يذكر.

ولهذا السبب، فإن الادعاء بأنه من المستحيل ببساطة أن تدافع أوروبا عن نفسها من أجل إبقاء الولايات المتحدة ملتزمة بالكامل قد يؤدي إلى نتائج عكسية، إذا أدى إلى تثبيط الجهود الأوروبية الجادة وخفضت الولايات المتحدة التزامها على أي حال.

والعائق الثالث هو الدور الغامض الذي تلعبه الأسلحة النووية، إذا كنت تعتقد حقاً أن الأسلحة النووية تردع أعمال العدوان واسعة النطاق، فمن المرجح أن تعتقد أن القوات النووية البريطانية والفرنسية و”المظلة النووية” الأمريكية ستحمي الناتو من أي هجوم روسي تحت أي ظرف من الظروف تقريباً -ومن الجدير بالذكر أن أوكرانيا ليست عضواً في حلف شمال الأطلسي-.

وإذا كان الأمر كذلك، فستكون هناك حاجة أقل لبناء مجموعة كبيرة ومكلفة من القوات التقليدية، ومع ذلك، إذا لم تكن واثقًا من موثوقية الردع النووي الموسع، أو كنت لا ترغب في التهديد باستخدام الأسلحة النووية ردًا على بعض التحديات منخفضة المستوى، فسوف تحتاج إلى ذلك النوع من المرونة الذي تتمتع به القوات التقليدية القادرة.

حيث كانت هذه القضية نقطة خلاف داخل حلف شمال الأطلسي طوال فترة الحرب الباردة، كما أظهرت المناقشات داخل الحلف حول “الرد المرن” في الستينيات والجدل حول “الصواريخ الأوروبية” في الثمانينيات، وتظل هذه القضية ذات أهمية اليوم، بقدر ما قد يغري الوجود المستمر للأسلحة النووية بعض الدول بالتخلي عن قواتها التقليدية.

رابعاً، لا تزال الدول الأوروبية تفضل الاستثمار في صناعاتها الدفاعية وقواتها المسلحة، بدلاً من التعاون لتوحيد الأسلحة وتطوير استراتيجية وخطط دفاعية مشتركة، وفقًا لتقرير صدر عام 2023 عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، على الرغم من ارتفاع إجمالي الإنفاق الدفاعي الأوروبي بشكل حاد منذ استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم في عام 2014، إلا أن النسبة المخصصة لجهود المشتريات التعاونية انخفضت بشكل مطرد حتى عام 2021 ولم تقترب أبدًا من هدف 35 % سابقًا التي وضعها الاتحاد الأوروبي.

ويقال إن دول الاتحاد الأوروبي تمتلك حوالي 178 نظامًا مختلفًا للأسلحة – أي أكثر بـ 148 من الولايات المتحدة – على الرغم من إنفاقها أقل مما تنفقه الولايات المتحدة، وإن الميل العنيد إلى المضي قدماً بمفردها يؤدي إلى إهدار الميزة الهائلة الكامنة في الموارد التي تتمتع بها أوروبا مقارنة بمنافسيها المحتملين، وربما يشكل ترفاً لم تعد قادرة على تحمله.

وتتمثل العقبة الأخيرة ــ على الأقل في الوقت الراهن ــ في تناقض أميركا منذ فترة طويلة بشأن تشجيع أوروبا على الاعتماد على نفسها. لقد أرادت الولايات المتحدة عمومًا أن يكون شركاؤها الأوروبيون أقوياء عسكريًا – ولكن ليس أقوياء جدًا – ومتحدين سياسيًا – ولكن ليسوا متحدين جدًا، ولماذا؟ لأن هذا الترتيب أدى إلى تعظيم نفوذ الولايات المتحدة على تحالف من الشركاء القادرين ولكن التابعين.

وقد أرادت واشنطن أن يكون بقية أعضاء حلف شمال الأطلسي قويًا بما يكفي ليكون مفيدًا ولكن أيضًا متوافقًا تمامًا مع رغبات الولايات المتحدة، وسيكون الحفاظ على الامتثال أكثر صعوبة إذا أصبحت هذه الدول أقوى وبدأت في التحدث بصوت واحد، و إن الرغبة في إبقاء أوروبا تابعة وسهلة الانقياد دفعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى معارضة أي خطوات قد تؤدي إلى استقلال استراتيجي أوروبي حقيقي.

لكن تلك الأيام ربما تكون على وشك الانتهاء، ولا ينبغي للمرء أن يكون ترامبيا حتى يدرك أن الولايات المتحدة “لا يمكنها أن تحصل على كل شيء”، وأنها بحاجة إلى تحويل المزيد من عبء الدفاع الجماعي إلى شركائها الأوروبيين، ولكن إذا كان لنا أن نسترشد بالماضي، فإن أوروبا لن تعوض ما تركته إذا ظل قادتها على اقتناع بأن العم سام سوف يشارك بكل ما في وسعه تحت أي ظرف من الظروف.

ومن الجدير بالذكر أن الدافع الأولي للتكامل الاقتصادي الأوروبي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي كان مدفوعًا جزئيًا بالمخاوف الأوروبية من أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها في نهاية المطاف من القارة وأن قدرتها على مواجهة حلف وارسو سوف تتعزز من خلال إنشاء نظام اقتصادي أوروبي كبير وموحد، و لقد انحسر الدافع الأمني وراء التكامل الأوروبي بمجرد أن أصبح من الواضح أن العم سام سيبقى، ولكن الشكوك المتزايدة حول التزام الولايات المتحدة من شأنها أن تعطي الأوروبيين حافزاً كافياً لتعبئة قدراتهم الاقتصادية المتفوقة وإمكاناتهم العسكرية الكامنة على نحو أكثر فعالية، انطلاقاً من المصلحة الذاتية البحتة.

ويجب على المسؤولين الأميركيين تشجيع هذا التطور، بغض النظر عمن سيصل إلى البيت الأبيض العام المقبل، وكما قلت من قبل، فإن عملية إعادة الأمن الأوروبي إلى الأوروبيين يجب أن تتم تدريجياً، كجزء من تقسيم جديد للعمل عبر الأطلسي.

وإن تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة من شأنه أن يدفع أوروبا إلى تحقيق التوازن بقوة أكبر، والتحرك ببطء ولكن بثبات في هذا الاتجاه الذي من شأنه أن يمنح حلفاءنا الوقت للتغلب على معضلات العمل الجماعي التي سوف تنشأ حتماً، نظرًا لأن دول أوروبا تمتلك إمكانات عسكرية أكبر بكثير من روسيا، فإنها لا تحتاج إلى القيام بذلك بشكل مثالي حتى تكون آمنة تمامًا.

Political Keys

منصة إخبارية مستقلة، سياسية منوعة، تسعى لتقديم تغطية إخبارية شاملة وفق أعلى معايير المهنية والموضوعية، وأن تكون الوجهة الأولى للمعلومات والتقارير الاستقصائية الخاصة، وأن توفر رؤىً وتحليلاتٍ جديدةً ومعمقةً للقرّاء والمتابعين، تمكنهم من فهمٍ أعمقَ للأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط والعالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى