الاستراتيجية الروسية… قواسم مشتركة بين أوكرانيا وسوريا
د. باسل معراوي
طبيب ومحلل سياسي
كان الغزو الروسي لأوكرانيا حدثًا غير متوقع غَيّر المعادلات الدولية فما بعد 24 شباط 2022 ليس كما قبله.
تعافت روسيا البوتينية من آثار وتبعات انهيار الاتحاد السوفييتي وتَمكّن ضابط المخابرات الروسية والذي بدأ صعوده السريع في سلم القيادة الى أن أصبح قبل نهاية القرن الماضي بسنة واحدة سيد الكرملين أو قيصر روسيا الجديد.
كان الرئيس الروسي يعتبر أنّ الاتحاد السوفييتي كان خطيئة كبرى واتسمت بداية عهده وتَجذّرت تدريجيًا العقيدة الروسية القيصرية الإمبراطورية، بعد أن استتب الأمر له في موسكو كزعيمٍ أوحد وبصلاحيات القياصرة.
بدأت ملامح استراتيجيته بالوضوح فغزى جورجيا عام 2008 واقتطع منها أراض ضَمّها إلى روسيا ضاربًا عرض الحائط بحلف الناتو والذي كان ينوي ضَمّ جورجيا إليه لمحاصرته جنوبًا (هكذا كان يعتقد) ثم تَمدّد حلف الناتو شرقًا وأجرى توسعتين لعدد أعضائه من الدول التي كانت منضوية بحلف وارسو واقترب الناتو أكثر فأكثر من الحدود الروسية الغربية. لكنّ الولايات المتحدة كانت في مرحلة التيه الاستراتيجي فبعد انتصارها الكبير بنهاية الحرب الباردة على الغريم السوفييتي أصبحت القوة العظمى الوحيدة بالعالم وبعد عقد من الزمن فاجأتها ضربات 11 أيلول 2001 فوجدت ضالتها بعدو استراتيجي شبحي هذه المرة لازمان ولا مكان له… إذ أنّ الجماعات الجهادية السنية التي ضربت الولايات المتحدة منتشرة في مناطق واسعة وليست بحيز جغرافي واحد والعدو الرئيس للولايات المتحدة تلك الكتب والفتاوى والإرث الديني الذي يَمدّ تلك الحركات بالطاقة الفكرية والقدرة على التحشيد.
استغل الدب الروسي هذا الإنشغال الأمريكي عنه فواصل صعوده ولم يعد حلف الناتو تلك القوة المتماسكة رغم زيادة عدد أعضائه، وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يصفه بأبشع الأوصاف ويطالب أوروبا بِتحمّل مسؤوليات ونفقات الدفاع عن نفسها فيما وصفه الرئيس الفرنسي ذات مرة بأنّ الحلف ميّت سريريًا.
أنشأ الرئيس الروسي شبكة علاقات قوية مع الدول الأوروبية وجعلها تعتمد بشكل رئيسي على الطاقة الروسية من نفط وغاز، بل كان يبيعها لهم بأسعار تشجيعية.
وكان يحلم الرئيس بوتين من خلال علاقاته الجيدة مع ألمانيا بالذات وصداقته لمستشارتها أنجيلا ميركل والتي أثمرت عن إنشاء خط للغاز الطبيعي الروسي تحت مياه بحر البلطيق ( نورد ستريم 2 ) تصل إلى ألمانيا وحدها دون الخط الذي يُغذي القارة الأوربية والذي يمر عبر أوكرانيا.
ظَنّ بوتين أنه بسياساته جعل القارة الأوروبية تُدمن على الغاز الروسي كمصدر لا غنى عنه لاقتصادها.
وعندما لمس بوتين انشغالًا أمريكيًا بمحاربة الجماعات الجهادية وترهلًا أوروبيًا غزى شبه جزيرة القرم عام 2014 ضاربًا عرض الحائط (كعادته في غزو جورجيا) مرة أخرى بكل حلف الناتو والذي كان ينوي ضَمّ أوكرانيا له بعد الثورة البرتقالية التي أطاحت بحكم موالٍ لموسكو في كييف.
استطاع بوتين في سنوات قليلة التمدد جنوبًا وغربً ولمس ضعف التصدي له والذي اقتصر على الإدانات الرسمية والعقوبات الاقتصادية ولكي تكون الدولة عظمى يجب أن تتواجد قواعدها ونفوذها خارج المجال الحيوي والحَيّز الجغرافي للدولة الطامحة الصاعدة وكانت سورية هي المكان الأفضل للتمدّد خارج الجغرافية القريبة وكانت ظروف الحرب في سورية مؤاتية له للتدخل برضا دولي ضمن توافقات مع الولايات المتحدة.
وحصل التدخل العسكري المباشر في 30 أيلول 2015 وتمكنت الماكينة العسكرية الروسية الهمجية من تغيير المعادلات العسكرية على الأرض، وبنى الروس قواعد مهمة في الجغرافية السورية أهمهما قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية، ووصل أحفاد القياصر للمياه الدافئة على ضفاف المتوسط.
وعشية الغزو الروسي لأوكرانيا زار وزير الدفاع الروسي شويغو قواعد بلاده على الساحل السوري مُحذرًا الأوروبيين بأنّ الروس يحيطون بالجناح الجنوبي لحلف الناتو.
وانتشرت موجة من التحليلات والقراءات السياسية مفادها أنّ الروس يعرضون المقايضة بين تواجدهم العسكري بسوريا واعتراف الغرب بأحقية روسيا بضم شبه جزيرة القرم وجمهوريتي الدونباس، ولا أرجّح هذه الفرضية حيث أثبتت السنين اللاحقة أن المخطط الروسي يهدف الى ابتلاع أوكرانيا كلها كمرحلة أولى تليها مراحل ستنال من دول مجاورة لها أخرى. وبوتين لايُلقِ بالًا سواء اعترف الغرب بذلك أم لم يعترف فهو يَخلق أمرًا واقعًا على الأرض بالقوة العسكرية، وتواجده العسكري المؤثر والوحيد خارج مجاله الجغرافي في سوريا غير قابل للتساوم أو المقايضة والخط البحري بين سيفاستوبول وطرطوس حيوي للامبراطورية الروسية
بعد أن نَطحَ الرئيس الروسي جدار الناتو بقرون من عجين وظَنّ بوتين أنّ غزوه لأوكرانيا نُزهة أو بروفة لإرعاب الغرب وتَفكّك حلفه الميت سريريًا، ونظرًا لأنّ الولايات المتحدة لاتقبل بشراكة أي أحد لها في قيادة النظام الدولي ليس ذلك فحسب بل لاتقبل أن تصعد أية قوة ممكن أن تطمح بتلك الشراكة أو المنافسة الحقيقية… فإنّ الموقف الأمريكي وموقف الغرب الجماعي قوي وواضح بأنّ بوتين سيدفع الثمن غاليًا ليكون عبرة لغيره، وأنّ قرار تغيير نظام الحكم الروسي البوتيني هو أدنى أهداف الحرب وليس أقصاها، والصراع الدائر الآن على مستوى العالم كله هو صراع صفري لابُدّ من مهزوم ومنتصر، رابح وخاسر.
كان متوقعًا وفي ظِلّ الإخفاقات الروسية في حربها على أوكرانيا أن تلجأ الولايات المتحدة لمضايقة القوات الروسية في سورية تمهيدًا لإخراجها منها وبتر الذراع الخارجية الهامة للروس والتي تُشكّل الثقل النوعي والذي يُبيح للروس التمدّد في إفريقيا وبناء شبكة علاقات قوية مع الدول المتدخلة مباشرة بالحرب في سورية أو المتاثرة بها، حيث بنت روسيا علاقات مهمة بين كل الأطراف المتناقضة والمتصارعة وقَدّمت نفسها كضامن أو مدير للحلبة، فكانت علاقات موسكو جيدة مع أنقرة والقاهرة والرياض وأبو ظبي وطهران وتل أبيب.
لكن يرى البعض أنه طالما أنّ الجيش الروسي يخسر في أوكرانيا فلا داعي الآن لتخسيره في سوريا، إنما أرادت الولايات المتحدة بسبب الضعف والاهتراء الذي اعترى التواجد العسكري الروسي في سوريا أن تجعله وجودًا غير ذي جدوى لموسكو، بل عبئًا عليها وتَمّ التمهيد لذلك بتفعيل الدولة التركية لاتفاقية مونتيرو والتي تَمّ بموجبها إغلاق المضائق التركية بوجه البحرية العسكرية الروسية وفصل الأسطول الحربي الروسي في بحار العالم عن قاعدته الأم في سيفاستيبول في شبه جزيرة القرم. واعتبرت القيادة التركية أن مايجري في أوكرانيا هو حرب وليس عملية عسكرية خاصة كما تدعي موسكو.
ومِمّا لاشَكّ فيه أنّ موسكو غارقة بمستنقع له أول وليس له آخر في أوكرانيا وتريد تشتيت الجهد الأمريكي والغربي عن التركيز على تلك الجبهة عبر ممارسة ضغوط على الولايات المتحدة في سوريا عبر التهديد بتغيير قواعد الاشتباك الجوي وتشجيع إيران عبر ميليشياتها على البدء بمعركة لإخراج القوات الأمريكية من سوريا.
وروسيا رابحة في الحالتين فيما إذا ما اندلعت تلك المواجهة التي تسعى لها، فإن خرجت الولايات المتحدة من سوريا فإنها تكون قد حقفت تقدمًا بل نصرًا استراتيجيًا عليها… وإن لم تخرج ودارت تلك المواجهات وتطاير شررها لدول المنطقة والخليج العربي ممهدة لصراع آخر تنخرط فيه الولايات المتحدة مما يُضعف تركيزها وحشدها على الساحة الأوكرانية وسترتفع أسعار الطاقة والغذاء عالميًا، الأمر الذي يستدعي تهدئة ومفاوضات على الجبهة الأوكرانية لإيقاف الحرب والبدء بمحادثات بين الطرفين المتحاربين وخروج الدب الروسي من الوحل الأوكراني جريحًا ولكن ليس ميتًا.
بالطبع ليس في وارد القوات الأمريكية التورط بهذا السيناريو الروسي ولا أعتقد أنّ إيران ستكون دُمية بيد الروس يحركونها كيفما يشاؤون، ووضع أنفسهم تحت نيران الجحيم الأمريكي، وأنّ التخادم الأمريكي الإيراني قادر على تَجنب أي صدام والوصول لاتفاق نووي (ولو مؤقت) يخدم مصالح البلدين.
يرى بعض المراقبين أنّ الاستراتيجية الأمريكية قد تنطوي على إلحاق هزيمة عسكرية قاسية بالروس في أوكرانيا والإطاحة بالقيصر الروسي المٌترنّح ونظامه في عهد الرئيس بايدن، حيث ستحقق الأهداف المباشرة للحرب ويكون النصر الأمريكي أهمّ أوراق الرئيس بايدن في سعيه للظفر بولاية ثانية في البيت الأبيض.
إنّ مستوى الحشد والتحشيد العسكري الأمريكي النوعي في المنطقة والذي وصل لاستجلاب طائرات الشبح والفرقاطات النووية وطائرات الـF16 و الـF22 وحاملات طائرات وغواصات نووية لا أظنه موجهًا ضد التواجد الإيراني في سوريا والذي هو عبارة عن قطعان من الميليشيا البائسة منتشرة على مساحات شاسعة من الجغرافيا السورية ولاتملك أي قواعد مُحصّنة أو أسلحة نوعية أو شبكات دفاع جوي. وإنّ هذا التحشيد النوعي هو لإجبار الروس على الخروج من سوريا وخسارة المعركة دون خوضها، ويراه البعض هدفًا ستراتيجيًا أمريكيًا في إرجاع روسيا إلى دولة إقليمية كبرى تملك سلاحًا نووياكًا (كباكستان مثلاً) ولكن دون وجود عسكري خارجي يُحيط بالجناح الجنوبي للناتو، وسيكون هذا الخروج الروسي (إن تمّ) إحدى اللكمات التي تُوجّه للرئيس الروسي لإسقاطه بالضربة الفنية القاضية.