مقالات الرأي

إبراهيم الحريري يكتب لـ”بوليتكال كيز”: جهود روسيا في تقويض الهيكل الاجتماعي للعشائر في محافظة درعا السورية وسبل التصدي لها

إبراهيم الحريري – صحفي سوري، محرر ومقدم أخبار.

جهود روسيا في تقويض الهيكل الاجتماعي للعشائر في محافظة درعا السورية وسبل التصدي لها

تمتاز محافظة درعا الواقعة في جنوبي سوريا بالهيكلية الاجتماعية العشائرية التي استمرت في تكوين هويتها و التي كانت تشكّل المرجع الأول للأهالي حتى خلال فترة وجود “الدولة”.

بعد بداية “الثورة السورية” استمرت العشائرية كمفهوم رئيسي لأهالي المحافظة وأسهمت في حل النزاعات والخلافات بينهم.

بالإضافة إلى ذلك، تم بناء بعض الفصائل بشكل كامل على أساس هذا الهيكل العشائري، و مع تصاعد النشاط العسكري وتدخل “الموك”- ( غرفة تضم المخابرات الدولية) – في محافظة درعا، بدأت سلطة جديدة تظهر في المنطقة بوجود قادة فصائل مدعومين بشكل خاص من غرفة عمليات الموك. أدى هذا الواقع أحيانًا إلى انقلاب في التوازن الاجتماعي في المنطقة، الذي أثر بشكل مباشر على انتماء بعض الأفراد وجعلهم يترددون بين الالتزام بالفصيل واللجوء إليه، وبين الانتماء للعشيرة واللجوء إليها.

وعلى الرغم من التشتت الذي نجم عن الفصائلية، تمكنت العشائر في محافظة درعا من المحافظة على حالة من التوازن؛ وذلك بسبب مشاركتهم الكاملة في الجانب المسلح دون أن تتفوق جهة على أخرى فيما يتعلق بالسلاح والمال. وتعود هذه الوضعية إلى عوامل أخرى تتعلق بطبيعة المرحلة الثورية.

استراتيجية روسيا في درعا… صعود الفصيل على حساب العشائر المحلية

في عام 2018، سيطرت روسيا مع النظام وإيران على محافظة درعا بالكامل وفقًا لاتفاق الجنوب. وعلى عكس ما حدث في باقي المحافظات، بقيت معظم الفصائل في درعا داخل المحافظة. في هذه المرحلة، برز اسم “أحمد العودة” كأحد أبرز الشخصيات العسكرية من أبناء محافظة درعا، وحظي بثقة الروس الذين عينوه قائدًا للواء الثامن التابع لهم، والذي كان مؤلفًا أساسًا من أفراد من فصيله السابق المعروف بـ “شباب السنّة”، إلى جانب وجود كتائب صغيرة من باقي مناطق المحافظة. بينما قام بعض القادة الآخرين بالانتقال إلى شمال سوريا، و بقي الآخرون بدون تأثير يُذكر.

وهكذا، استطاع “أحمد العودة” أن يتصدر الساحة العسكرية بدعم من روسيا، حيث صاغت له مكانًا على رأس الهرم العسكري الذي لم تقم درعا وعشائرها ببنائه له.

العباءة الروسية التي ارتداها أحمد العودة لم تكن كافية لاستيعاب تطلعات أبناء محافظة درعا؛ إذ اعتبروه نموذجًا للانفصال عن الجماعة بدلًا من نموذج لقيادتها. وهنا يتجلى مفهوم العشائرية الدقيق، حيث يتمثل في أن القيادة، أو ما يُعرف بـ “الشيخة”، ينبغي أن تكون لمن يحمي مصالح الأكثرية برؤية جماعية. وهذا هو الخطاب الذي حاول أحمد العودة تصديره عن نفسه، ولكنه فشل في تطبيقه وعاكسه من خلال تنفيذ خروقات ضد أبناء درعا وعشائرها التي هي محل نقاشنا.

خروقات الفصيل العسكري التابع لروسيا في درعا

بفضل دعم روسيا، شعر عناصر الفيلق الخامس بقوة لا مثيل لها، حيث امتلكوا صلاحيات تفوق حتى سلطة النظام نفسه وتكفي لمواجهة إيران في منطقة درعا. هذه القوة التي ظهرت بشكل غير متوقع بالنسبة للفصيل، دفعتهم نحو ارتكاب خروقات ضد أبناء درعا، متجاوزين كل الأعراف والقوانين العشائرية والمناطقية التي تحكم هذه المحافظة.

و من بين أبرز هذه الخروقات، تجدر الإشارة إلى ما قام به الفصيل بحق عائلة الكفري في بلدة المتاعية خلال الشهر السابع من عام 2021، حيث شهدت البلدة أعمال قتل واعتقال تعسفي وهدم للمنازل نفذها عناصر اللواء الثامن التابع لروسيا. تصرفات عناصر الفصيل هذه تعزز فهمها على أنها عصابة أو ميليشيا تمارس السلطة بشكل تجاوزي، مما يتنافى مع النهج التقليدي للمحافظة الذي يعتمد على حكماء العشائر وذوي الرأي لحل النزاعات بين البلدات والعائلات.

ويجدر بالذكر أن هذه الحادثة بدأت كنزاع بسيط بين أهالي البلدة وعناصر من اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس، وكان يمكن حله قبل أن تتدخل تعزيزات كبيرة من اللواء الثامن. للأسف، استمرت المشكلة بهذا الشكل دون اللجوء إلى الوسائل التقليدية لحل النزاعات في محافظة درعا وفضل عناصر الفصيل وقادتهم اللجوء للقوة العسكرية التي منحتهم إياها روسيا دون أخذ قيم ومبادئ المحافظة بعين الاعتبار.

حادثة أخرى نفذها عناصر الفصيل لكنها كانت ضمن حيز البلدة التي يتمركز فيها اللواء الثامن في مدينة بصرى الشام بريف درعا الشرقي، حيث أقدم عناصر الفصيل على قتل أب وابنه عقب خلاف داخلي نشب بين الشاب وعناصر من اللواء الثامن. في هذه الحادثة حاول اللواء الثامن استدراك نفسه وأعلن لجوءه لهيئة عشائرية لحل الخلاف الحاصل قبل أن يتطور الأمر بين عائلات المدينة… وهنا تظهر قراءة جديدة في سلوك الفصيل المخالف لسلوكه في حوادث أخرى.

السبب الظاهر يرتبط برغبة الفيلق في الحفاظ على تموقعه الداخلي. فعائلات بصرى لم تكن لتصمت بشأن تصرفات بعض عناصر الفيلق من نفس المدينة، بينما يبدو أن هذه القوة ليست متاحة لأبناء بلدة المتاعية الذين يفتقرون إلى التأييد والقوة في مواجهة الفصيل المدعوم من قبل روسيا.

حوادث أخرى تشهد تكرارًا وتبدو أكبر من إمكانية إحصائها، مما يشير إلى وجود حالة من التمرد داخل الفصيل.

و على الرغم من تصريحاته (أحمد العودة) التي تدعي حرصه على مصلحة محافظة درعا، إلا أنه يبدو أن الفصيل غير قادر على الوفاء بالخطاب الذي يتبناه.

محاولات روسية لتصدير وجهاء وقادة يتبعون لها

في الوقت الذي كانت روسيا تقوم بتفكيك هيكل العشائر، كانت تسعى في الوقت نفسه للسيطرة عليها من خلال استغلال وجهاء بعض العشائر وجعلهم تحت إمرتها بطرق تشبه أساليب النظام. وبالفعل، نجح أحمد العودة في جذب بعض وجهاء منطقته والتي هي في الأساس تحت سيطرته. كما أسس لجانًا عشائرية على مستوى المحافظة، لكن هذه اللجان لم تكن لها القدرة على التحكم في قرارات عائلات درعا.

هذا الواقع أظهر فشل روسيا في تهيئة العائلات التي تم تهميشها بالفعل، مما يشبه التهميش الذي يواجهه بعض عائلات دير الزور من قبل قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

وهنا يطرح تساؤل مهم حول اختيار روسيا لشخصية أحمد العودة، وهو من عائلة صغيرة في بصرى الشام ويعتبر واحدًا من أصغر العائلات في المحافظة. ويمكن القول هنا أن روسيا ربما لم تكن ترغب في وجود منافس قوي لها، ولذلك اختارت شخصًا يكون مطيعًا وينفذ أوامرها ويتبنى رؤيتها… فوجود شخص من عائلة ذات نفوذ قوي على رأس فصيل مؤثر سيكون تحديًا صعبًا للتحكم فيه. وفي المقابل، يبقى العودة شخصية معروفة بدعم روسيا، حيث يظهر بتوجيهاتها ويختفي بغيابها، مما يسهل على روسيا السيطرة على الوضع بسهولة.

وهذا بدوره لعب بشكل أساسي في تفكيك دور العشائر في درعا و شكّل بِنيةً خصبةً لنشوء حالة من الفوضى حيث أصبحت روسيا السلطة الرئيسية، هذا التفكك يمكن أن يسهل أيضًا مهمة إيران في نشر التشيع… وهذا سيؤدي إلى إعادة تشكيل طبيعة المحافظة بحيث يصبح أبناؤها تبعًا أساسيًا لروسيا بدرجة أولى وبدرجة ثانية لإيران.

هذا الوضع قد أثار قلق إسرائيل مسبقًا عندما اشترطت في اتفاقية الجنوب ابتعاد إيران عن حدودها بمقدار 40 كيلومترًا وعدم التغيير الديموغرافي في المنطقة.

العشائر مفتاح دولي جديد في الجنوب السوري

نستطيع القول إن تل أبيب عرفت أهميةَ قيمة العائلات في المنطقة وأهمية وجود بنية عشائرية في محافظة درعا تمنع تبعية الأفراد لإيران وروسيا.

الآن وفي ظل حديث أردني عن إنشاء منطقة عازلة لحماية نفسها من خطر المخدرات والسلاح، تبدو العشائر شكلًا مهمًا يمكن لشركاء الأردن الاعتماد عليه في تحقيق أي رؤية مستقبلية للمحافظة، لا سيما أن واشنطن باتت تدرك أكثر من ذي قبل ثقل العشيرة وأثرها عقب الأحداث الأخيرة التي شهدتها دير الزور.

يمكن القول إن هذه العائلات هي بوابة المملكة الأردنية للدخول إلى جنوبي سوريا بشكل قد يؤدي لإنهاء تخوفاتها من تجارة الكبتاجون، وهو ما يتقاطع مع رغبة تلك العشائر في حماية أبنائها من خطر المخدرات ونفوذ إيران وروسيا. كما أنه من الممكن أن توجه المملكة الأردنية اهتمامها هذا من خلال التحالف الدولي الذي بات يفكر بشكل جاد بالتعامل مع عشائر سوريا لما أثبتته من عزم وجدية.

في السويداء أيضًا ورغم وجود مرجعية دينية، إلا أن الحراك لا يخلُ من ذكر أسماء العائلات ودورها في السويداء، وهو ما قد يشكل بابًا لارتباط السويداء بعائلات محافظة درعا لتشكيل تحالف عسكري قد يغير المعادلة في الجنوب في حال أرادت الدول المعنية ذلك.

في الختام، ما يزال الأمل قائمًا في إعادة دور العشيرة في درعا بشكل إيجابي يحقق مصلحةَ المحافظة والمنطقة ويعيدها للسكة الصحيحة… فعائلات المحافظة موجودة قائمة وتحاول قدر استطاعتها التكيف مع أي واقع، وهو تكيف لا يخلُ من احتقان ضد فصيل روسيا الذي بات يكرر الاعتداءات عليها، وهو ما يشي بحدوث سيناريو مشابه لما حصل في شمال شرقي سوريا من ثورة تلك العشائر بوجه قسد.

وقبل أن تتحكم أي دولة بهذه العائلات، يسابق أبناء درعا لتشكيل مرجعية لهم تكون مرضية لدى جميع العائلات، كي لا تنفرد واحدة منها بسلطة أو سيادة. كما أنهم باتوا مدركين لأهمية وجود شخصيات حقوقية وسياسية وإعلامية لاستيعاب باقي طبقات المجتمع التي لا تنتمي لعشائر منظمة.

وهنا يمكن القول إن أي كيان قد يتفق عليه أبناء درعا سيكون وجهة الدول التي تبحث عن حل حقيقي في جنوبي سوريا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى