مقالات الرأي

خلدون عبد الله يكتب لـ “بوليتكال كيز | Political keys”: الأمن البحري في الشرق الأوسط، نظام إقليمي وبنية مفككة.

خلدون عبد الله – ماجستير دراسات استراتيجية ودفاع من جامعة “مالايا” الماليزية، مهتم بقضايا الأمن الدولي والعلاقات الدولية، وباحث غير مقيم في مركز “آسيا والشرق الأوسط للدراسات والحوار”.

يقع الشرق الأوسط في قلب القارة العالمية (آسيا، أفريقيا وأوروبا)، ويلعب بذلك دور الواصل والحاجز بين القارات الثلاث براً وبحراً. بتسليط الضوء على الجانب البحري، يحتضن الإقليم مجموعة من البحار الضيقة وشبه المغلقة، التي تمثل ممرات استراتيجية بين البحار والمساحات القاريّة القريبة، وكذا بين المحيطين الهندي والأطلسي، أو بتعبير استراتيجي، منطقتي الإندو-باسيفيك والإندو-اتلنتيك (Indo-Pacific and Indo-Atlantic)
على غرار البر، يضطرب المشهد الجيوسياسي على مياه الشرق الأوسط، ويسلط المقال الضوء على بحر الخليج العربي، البحر الأحمر وشرق المتوسط، لمركزيتها في النظام البحري الإقليمي، بما يساعد في تكوين فهم عام لتحديات البنية الأمنية في مياه الشرق الأوسط، والتي يمكن تصنيفها في ثلاث مجموعات على النحو المبين في الفقرات التالية.

أولاً: نزاعات حدودية ومعضلات أمنية
تشترك معظم دول الشرق الأوسط والأقاليم المتاخمة في كونها دول حديثة نشأت فيما بعد الاستعمار (Post-Colonial States) وتواجه جملة من الإشكالات من أهمها ترسيم حدودها المشتركة. بحراً, يزداد عمق الخلاف نظراً لجغرافيا البحار الضيقة, التي تجعل القوانين الدولية في ترسيم الحدود البحرية, وتعريف المناطق الاقتصادية الخاصة, صعبة التطبيق.
ففي الخليج العربي، يبرز النزاع الحدودي القطري-البحريني، واحداً من أطول الملفات التي ظلّت معلّقة في أروقة محكمة العدل الدولية. وبالرغم من صدور الحكم في القضية عام 2000م، إلا أنها لا تزال ملفاً شائكاً حتى اللحظة.
في الضفة الأخرى، تخوض إيران خلافاً حدودياً متعدد الاتجاهات، فتتنازع مع السعودية والكويت حقل الدرة للغاز الطبيعي، وتهدد ضمنياً باستخدام القوة ضد أي محاولة إماراتية للسيطرة على جزيرتي طنب الصغرى والكبرى وجزيرة أبو موسى في أرخبيل مضيق هرمز.
الإشكالية ذاتها تتكرر في البحر الأحمر، حيث خاضت اليمن وأرتيريا نزاعاً مسلحاً بين 1995م-1998م، حينما حاولت الأخيرة الاستيلاء على أرخبيل حنيش، قبل أن تؤول ملكيته لليمن بموجب التحكيم الدولي. بينما في الشمال توافقت الرياض والقاهرة دبلوماسياً على نقل ملكية جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة العربية السعودية، ولم تستكمل الإجراءات إلى اللحظة الراهنة وسط معارضة شعبية مصرية.
في شرق المتوسط، يبدو المشهد أشد تعقيداً ضمن صراع حدودي يخوضه الكل ضد الكل. فتداخل الحدود البحرية للدول بصورة معقدة، يجعل الوصول الى حل مرضي لجميع الأطراف صعب المنال، ولاسيما مع اكتشاف مكامن الغاز الطبيعي في قاع البحر، وتنافس الدول فيما بينها على ملكية الحقول.
فعلى سبيل المثال، سعت تركيا إلى تجاوز معضلتها مع اليونان بالتفاهم مع ليبيا على ترسيم حدودهما في المتوسط، الأمر الذي ولد نتائج عكسية في القاهرة، لتقوم بتوقيع اتفاقية حدودية مع أثينا. وهكذا يكون أي تقارب بين دولتين في شرق المتوسط، سبباً في توليد ردود أفعال متسلسلة، تزيد من تعميق أزمة الحدود البحرية في المنطقة.
وبالمجمل العام، تؤدي الخلافات الحدودية في مياه الشرق الأوسط إلى تحويلها إلى مناطق “نزاع على السيطرة” (Dispute in Control)، وبالتالي تكبيل قدرة الدول المشاطئة للبحار في استغلال مقوماتها الجغرافية، ما يخلق فراغاً جيوسياسياً، يفسح المجال للاعبين الدوليين، واللاعبين الإقليميين من غير الدول.

ثانياً: تهديدات أمنية غير تقليدية
تُعرّف التهديدات الأمنية الغير تقليدية (Non-traditional Security) بصورة واسعة بأنها المخاطر التي تأتي من مصادر غير الصدام العسكري المباشر، كاستخدام الدول لأساليب الحرب الغير المباشرة، أو عمليات التنظيمات المسلحة، وكذا الكوارث الطبيعية ونحوها من المخاطر.
في الخليج، وبينما تتحالف دول مجلس التعاون مع الولايات المتحدة لموازنة الأفضلية الجغرافية لإيران في هرمز، تدرك الأخيرة صعوبة التأثير في ميزان القوة البحري أو السيطرة المطلقة على الممر المائي في ظل تواجد الأسطول الأمريكي، فتنتهج استراتيجية المنع (Sea Denial) وتلوّح بإغلاق المضيق باستخدام الأدوات الغير تقليدية.
سياسياً، يبدو إغلاق هرمز أقل البدائل احتمالاً، وأقرب ما يكون إلى “الخيار شمشون الإيراني”، إلا أنه يظل متاحاً من النواحي العسكرية باستخدام الصواريخ أرض- أرض (SSM) أو الصواريخ الجوّالة (Cruise Missile) وكذا القوارب والطائرات المسيّرة والألغام البحرية، بالإضافة إلى الهجمات الالكترونية لتعطيل وتشويش أجهزة الاتصال والملاحة في السفن التجارية.
في البحر الأحمر، تدفع الحرب اليمنية بمجموعة من التهديدات غير التقليدية إلى محيط باب المندب، حيث يستغل الحوثيون السواحل منفذاً لوجستياً للحصول على الأسلحة والإمدادات المهربة في الغالب من إيران، كما قامت الجماعة بتنفيذ عمليات عسكرية استهدفت القطع الحربية والسفن التجارية والموانئ التابعة للحكومة ودول التحالف.
تهديد غير تقليدي آخر في ذات الممر المائي يبرز في عدم التكافؤ بين حجم التنمية في البنى التحتية، والتطور في حركة النقل وصناعة السفن، بما يهدد سلامة المرور في المضائق والمخانق الاستراتيجية. فبالرغم من توسعة قناة السويس التي تم الانتهاء منها في 2015م، تسبب انحراف سفينة الحاويات العملاقة “إيفرجيفن” في مارس/ أذار 2021م بإغلاق القناة لمدة ستة أيام.
في شرق المتوسط، أدى النزاع الحدودي إلى تحجيم رقابة الدول على المياه، وبالتالي تحولها إلى خطوط تهريب ساخنة، سواء لتهريب الأسلحة، وتسلل المقاتلين إلى مناطق الصراع، أو لتجارة الممنوعات، وحتى الهجرة الغير شرعية إلى الشواطئ الأوروبية.
مما سبق، يمكن القول أن التهديدات الغير تقليدية، هي نتاج عدم وجود قوة بحرية شرق أوسطية، بما يفضي إلى لجوء الدول لأساليب الحروب الغير المباشرة، أو صعود لاعبين غير الدول ولاسيما في الدول الفاشلة (Failed State) على غرار اليمن ولبنان وسوريا وليبيا.

ثالثاً: موازنة البحار ضد بعضها
يأتي ذلك ضمن سعي الدول لتجاوز معضلة أمنية في إحدى البحار باستغلال أو استحداث ممرات في البحار الأخرى، بما يؤدي إلى نشوء ميزان قوة فيما بينها. ويعكس هذا البعد من ناحية، حجم الترابط والتشابك الجيوسياسي بين مياه الشرق الأوسط، كما يعبّر من ناحية أخرى، عن فشل دول المنطقة في خلق رؤية مشتركة للتكامل بين البحار، واستغلال مميزاتها الاستراتيجية.
حيث سعت المملكة العربية السعودية إلى توظيف إطلالتها على البحر الأحمر لموازنة الأفضلية الإيرانية في الخليج ومضيق هرمز، عبر مد أنابيب تصدير النفط من الآبار شرق المملكة إلى ميناء ينبع في الغرب. في المقابل رمت إيران إلى قلب الميزان السعودي بدعمها للحوثيين، واستغلال البحر الأحمر منفذاً لتسليح الجماعة، ومسرحاً لعملياتها البحرية.
على ذات المنوال، يبرز التوافق المصري-السعودي-الإماراتي في المتوسط، في مقابل الحضور التركي في البحر الأحمر، عبر انشاء قاعدة عسكرية في الصومال جنوب باب المندب والسعي إلى تشييد قاعدة أخرى في جزيرة سواكن السودانية. وبالتالي تشكيل ميزان جيوسياسي بين البحرين.
ومؤخراً، شهدت قمة دول العشرين (G20) في العاصمة الهندية دلهي، إعلان مشروع ممر الهند -الشرق الأوسط – أوروبا (IMEC) الذي سيربط بين مياه الخليج وشرق المتوسط من خلال سكك الحديد التي تقطع أراضي الشرق الأوسط، ويفتح بذلك طريقاً بديلاً للربط بين آسيا وأوروبا.
وبالرغم من محدودية الأثر المتوقع للممر المزمع إنشاؤه على مستوى حركة الملاحة في خليج عدن والبحر الأحمر، نظراً لأفضلية النقل البحري على نظيره البري، يمكن القول بأنه يمثل خياراً جيوستراتيجياً للدول الأعضاء، لمناورة أي تهديد أمني في البحر الأحمر قد يمس مصالحها بصفة خاصة.
وهكذا ترتبط مياه الشرق الأوسط جيوسياسياً, فينعكس كل حدث في إحدى البحار على حسابات الدول في البحار الأخرى. وفي ظل عدم الوفاق الذي تشهده المنطقة، تبنت الدول استراتيجية توظيف البحار لمكافئة تهديد أو تنافس في بحر آخر، بما يُنشئ ميزان قوة معقد فيما بينها.

خلاصةً، تساهم الأحداث البرية في تشكيل البنية الأمنية في مياه الشرق الأوسط، على غرار حرب اليمن وأثرها في عسكرة البحر الأحمر، إلا أن تصاعد قضايا ذات بعد بحري خالص، كالنزاع الحدودي بين دول شرق المتوسط وما يماثله في البحار الأخرى، وكذا استراتيجية الموازنة بين البحار، تجعل مياه الشرق الأوسط نظاماً إقليمياً خاصاً قائماً بذاته.
بالإضافة إلى التحديات الأمنية التي تتكرر بصورة نمطية، يفتقر النظام البحري الإقليمي في المنطقة إلى قوة بحرية شرق أوسطية لأسباب جيوسياسية وتقنيّة، ما يحول دون تعريف قواعد أي ترتيب أمني إقليمي، ويجعل مساعي على غرار منتدى البحر الأحمر، الذي أعلنته الرياض مؤخراً، محفوفاً بالكثير من التحديات.
ويؤدي ذلك إجمالاً إلى خلخلة البنية الأمنية في بحار الشرق الأوسط، وخلق فراغً جيوسياسي يجعل مياه الإقليم مفتوحةً لإمضاء وتصارع مصالح القوى الكبرى، وقوى الأقاليم المجاورة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى