خليل صباغ يكتب لـ”بوليتكال كيز | Political Keys”: حرب ثالثة تلوح في كاراباخ… أرمينيا تستكشف خياراتها الجديدة لمواجهة الخطر الأذري
خليل صباغ – صحفي سوري وباحث مساعد في مركز “الحوار السوري”
في سياق تصاعد التوترات والاتهامات المتبادلة بين أذربيجان وأرمينيا، يزداد خطر عودة اشتعال النزاع في منطقة جنوب القوقاز، حيث كان البداية في تموز الماضي عندما قررت أذربيجان إغلاق ممر “لاتشين”، الطريق الوحيد الذي يربط أرمينيا بإقليم “كاراباخ”، ودفعت لإدخال المساعدات إليه من خلال معبر “اغدام”، وهو ما اعتبرته أرمينيا انتهاكًا لاتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في عام 2020، ورغم مسارعة العديد من الأطراف الإقليمية والدولية للتهدئة إلا أن جولة مواجهات عسكرية اندلعت قبل أيام على الحدود الغربية للإقليم وأدت لوقوع خسائر بشرية، وتجددت خلال الساعات الماضية مع إعلان أذربيجان عن عملية عسكرية “ذات طبيعة موضعية” ردا على ما اعتبرها الاستفزازات الأرمينية.
تعتبر المنطقة أرضا خصبة لأي نزاع مسلح نظرا لتجذّر الصراع بين الطرفين إذ يعود لعقود طويلة وتحركه عوامل تاريخية وسياسية وثقافية واقتصادي، ويتأثر بمصالح الدول المحيطة به، إلا أن أرمينيا التي خسرت حرب الـ 44 يوما عام 2020 وتنازلت عن مساحات واسعة من الإقليم لصالح أذربيجان، يبدو أنها غير مستعدة للانخراط بحرب جديدة خاصة مع فقدانها الثقة بحليفتها “روسيا” الغارقة بالمستنقع الأوكراني، حيث بعث رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان عبر وكالة تاس الروسية رسائل إلى أذربيجان مفادها إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام بحلول نهاية العام، وأن بلاده “تبذل قصارى جهدها لتحقيق ذلك”، تصريحات ردت عليها باكو بالمثل وأعلنت التزامها بالوسائل السلمية.
الانجراف نحو الغرب: محاولات الانفكاك عن روسيا
يحاول صانع القرار الأرمني إعادة رسم سياسات بلاده الخارجية، في مسعى لممارسة ضغوط أكبر على الجارة أذربيجان -التي باتت تتمتع باهتمام غربي لما تملكه من موارد نفطية يمكن أن تكون بديلا عن السوق الروسية-، وبما أن موسكو تعد حليفا لأرمينيا من خلال “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، وهو تحالف عسكري سياسي شكلته مجموعة من الجمهوريات السوفيتية السابقة بقيادة روسيا، فإن أي تغير بالسياسات الخارجية لـ “يريفان” تعتبره روسيا خطرا عليها وعلى مجالها الحيوي التقليدي، لذلك لم يتأخر الرد الروسي على الانتقادات الأرمينية حول تراجع دور قوات حفظ السلام الروسية للحفاظ على طريق “لاتشين” حيث أقر الكرملين ضمنيا بتراجع الدور الروسي مع التأكيد على أن ذلك لا يعني أن بلاده قلصت أو ستقلص أنشطتها في أرمينيا.
تعتبر المناورات الأرمينية الأمريكية التي حملت اسم “إيغل بارتنر 2023” وتجري بين 11 – 20 أيلول الحالي، أحدث مؤشر على ابتعاد أرمينيا (الجمهورية السوفيتية) عن حليفتها التقليدية روسيا، وعلى الرغم من محدودية المناورات واقتصار أهدافها على تعزيز قدرات وحدات الجيش الأرمينية في مجالات محددة مثل السيطرة والاتصالات التكتيكية ومشاركتهم في عمليات حفظ السلام الدولية، إلا أنها تعد مؤشرا يؤكد مساع يريفان الانفكاك “الجزئي” عن موسكو خاصة مع رفضها في كانون الثاني الماضي استقبال مناورات “منظمة الأمن الجماعي” التي تعد جزءا منها، وما يعزز من فكرة أن أرمينيا باتت تنظر إلى الغرب كحليف أو شريك مستقبلي تصريحات رئيس حكومتها “نيكول باشينيان” لصحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية التي وصف فيها سياسة بلاده بالاعتماد على روسيا فقط لضمان أمنها هو “خطأ إستراتيجي”، وأن بلاده تحاول تنويع استراتيجياتها الأمنية.
بالإضافة إلى ذلك، تظهر رغبة أرمينيا في الانفكاك الجزئي عن روسيا أيضًا من خلال محاولتها الانضمام إلى الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية، وهذا يتعارض مع موقف موسكو بشدة بسبب مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة بحق الرئيس فلاديمير بوتين، في المحصلة يشير كل ذلك إلى تحول في الأولويات الدبلوماسية لأرمينيا ورغبتها في تعزيز دورها على الساحة الدولية بشكل مستقل عن روسيا دون معاداتها حيث أكد باشينيان عدم وجود مشكلات مع الروس وأن علاقات بلاده مع موسكو صادقة للغاية، كذلك تحاول يريفان إيجاد وسائل وبدائل لمواجهة المخاطر الأمنية أو احتوائها وعلى رأسها أذربيجان التي تسعى بالشراكة مع تركيا لبناء طريق وممر للسكك الحديدية يربط الأراضي الأذرية بتلك الواقعة خلف الحدود الأرمنية والمعروفة باسم إقليم “ناخيشيفان” من خلال شق طريق داخل أرمينيا، خطوة تنظر إليها يريفان على أنها انتهاك لسيادتها، وتدفعها للبحث عن شركاء أو ظهير عسكري لمواجهة أزمة لا تنتهي مع أذربيجان.
الموقف الغربي: فرصة لمنازعة روسيا في مجالها الحيوي
تدرك الدول الغربية جيدا وعلى رأسها أمريكا أن روسيا تخشى من خروج أرمينيا من مدارها السياسي والعسكري أو تحولها إلى حركات “الثورات الملونة” التي شهدها العديد من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق منذ بداية هذا القرن وكانت أرمينيا هدفاً لهذه الثورات بعد نجاح “ثورة الورود” في جورجيا عام 2003، و “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا عام 2004، و “ثورة السوسن” في قيرغيزستان عام 2005.
من هذا المنطلق تنتهز الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا الفرصة وتبحث عن منافذ لها في القوقاز لمنازعة النفوذ التاريخي للروس، وتفتيت ما يعرف بـ “أصدقاء روسيا” وإشعال فتيل الاستقطاب بين الشرق والغرب وهذه المرة من الملف الأرميني، ويمكن قراءة دعوة رئيس لجنة التنمية الأوروبية في حلف “الناتو”، غونتر فيلينغر أرمينيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي ودعوة الغرب لحمايته مؤشر غير مباشر لاستمالة أرمينيا إلى المعسكر الغربي ، وهذا ما سارعت أرمينيا لتبيانه حيث أوضحت وزارة الخارجية الأرمينية “أنه لم تكن هناك دعوة في حد ذاتها لانضمام البلاد إلى الحلف، ولم يكن هناك حديث عن الانضمام”.
عمليا؛ من الصعب على أرمينيا، الدولة المغلقة غير الساحلية، والمحاطة جغرافياً بروسيا والدول المتحالفة معها كإيران، والدول المعادية لها مثل أذربيجان وتركيا، أن تخرج من تحت المظلة الروسية، إذ إن موسكو على الرغم من تراجع دورها مؤخرا في جنوب القوقاز من وجهة نظر أرمينيا، إلا أنها لا تزال تمثل عامل ردع لأي مخاطر قد تتعرض لها يريفان فضلا عن اعتماد الاقتصاد الأرميني بشكل كبير على التجارة والتعاون الاقتصادي مع روسيا.
والأرجح أن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان يسعى إلى الحصول على حلفاء جدد في صراع أرمينيا مع أذربيجان، لكن دون المضي بأي خطوات نحو الانضمام إلى حلف الأطلسي، فمجرد الإعلان عنه سيفجر صراعاً مع روسيا، وهذا ما لوحت به موسكو في وقت سابق حيث دعا فلاديمير جباروف، النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الاتحاد الروسي، أرمينيا النظر إلى “ما يحدث في أوكرانيا”.
استنتاجات
على العموم سيبقى التوتر بين أذربيجان وأرمينيا متصاعدا، إلا أن احتمال تحوله لحرب مشابهة لـ 2020 لا يزال منخفضا على المدى القريب، والسيناريو المحتمل هو أن تستمر أذربيجان بعمليات عسكرية محدودة -أعلنت وزارة الدفاع الأذربيجانية يوم 19 أيلول البدء بعملية عسكرية في إقليم كارباخ لاستعادة “النظام الدستوري- ولعل هدفها دفع أرمينيا التي تعاني من حالة نفور مع حليفتها روسيا تقديم التنازلات تجاه المطالب الأذربيجانية المتعلقة بفتح طريق يصل أراضيها مع إقليم ناختشيفان، ووقف دعمها لحكومة أرتساخ، بالمقابل مستبعد أن تتخذ أرمينيا أي خطوات تصعيدية وقد تكتفي بالرد على مصادر النيران، إلا أن ذلك لن يقف عائقا أمام محاولاتها لحشد الشركاء بعيدا عن إيران -التي أعلنت عن دعم يريفان- إلا أن تلقي الأخيرة إشارات غربية من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مفادها أن أي تعاون عسكري مع إيران، مهما كان صغيرا، من شأنه أن يضر بشدة بالعلاقات، لذا فإن الشريك الأقل إثارة للجدل قد يكون الهند، التي يمكن أن تقبلها كل من روسيا والغرب كمورد جديد للأسلحة لأرمينيا وقد تطلب منها يريفان الوساطة لدى أذربيجان للتهدئة.
تنبئ جل المؤشرات بأن التصعيد -ضمن نطاقه الضيق- في جنوب القوقاز سيبقى قائما في المدى القريب والمتوسط ولعل السيناريو الأفضل لجنوب القوقاز والذي تدركه أرمينيا هو إعطاء الأولوية للاستقرار والسلام، من خلال إعادة رسم خريطة الشركاء سواء من خلال فتح قنوات اتصال مع المعسكر الغربي دون الخروج من العباءة الروسية، والدفع نحو عملية تطبيع مع تركيا من شأنها تخفيف حدة التهديدات الأذربيجانية كون العلاقات التركية الأذربيجانية تقوم على مبدأ “شعب واحدة في دولتين”.