خلدون عبد الله يكتب لـ”بوليتكال كيز | Political Keys”: بريكس والنظام الدولي الناشئ
بريكس والنظام الدولي الناشئ
حظيت قمة بريكس الخامسة عشرة، التي احتضنتها جوهانسبورج في تموز/ يوليو الماضي، باهتمام عالمي لما شهدته من تغييرات وحملته من وعود، حيث تحولت المجموعة الرباعية التي تأسست في 2009، ولحقت بها جنوب أفريقيا في 2010، إلى نادٍ دولي بانضمام ست دول جديدة، والانتقال إلى الـ”بريكس بلس (BRICS+)” التي بات يُنظر إليها بأنها تؤسس لنظام دولي جديد (International Order)، لا سيما مع طرح فكرة إطلاق عملة مشتركة للتداول بين دول التجمع عوضًا عن الدولار الأمريكي.
بريكس تحت المجهر
يمكن القول إن بريكس هو تجمع غير متجانس من دول الاقتصادات النامية المتضررة أو القلقة من تبعات السياسات الاحتكارية لواشنطن ونفوذها المطلق على النظام الدولي، وبشكل خاص على الصعيد الاقتصادي، وتشترك هذه الدول فيما بينها في مجموعة من النقاط على النحو التالي:
أولًا: مطالبتها بحصة أكبر من صناعة القرار الدولي تعكس مكانتها الحقيقية، حيث لا تزال جميع دول بريكس مقصيّة عن نادي النخبة للدول السبع الكبرى G7 في الوقت الذي يجاوز فيها مجموع نواتج دخلها القومي قيمته عند نظيرها الغربي.
ثانيًا: القلق من عدم موثوقية الدولار الأمريكي، فقد كانت الأزمة المالية العالمية إنذارًا للدول النامية بانهيار اقتصاداتها في حالة ظلّت معتمدة على الدولار الذي يشكل معظم احتياطاتها النقدية، وليس من محض المصادفة أن أول لقاء بين قادة المجموعة كان في ذات عام الأزمة 2009.
بالإضافة إلى ذلك، شكلت عسكرة الدولار ونظام العقوبات الاقتصادية مصدر تهديدٍ آخر طالت وطأته موسكو إزاء حربها على أوكرانيا، ويلوح لهيبه لبيكين في إطار صراعها مع واشنطن على ملف تايوان، ولذلك عمدت دول المجموعة في 2014 إلى تأسيس بنك التنمية الجديد برأس مال مشترك بلغ 50 مليار دولار، وبدأت تدير تبادلاتها التجارية بعملاتها المحلية بينما تتباحث مشروع إطلاق عملة مشتركة.
ثالثًا: الرغبة في التخلص من إملاءات المؤسسات الدولية التابعة لأمريكا فيما يتعلق بهيكلة بنيتها الاقتصادية، وطبيعة نظامها السياسي، حيث تنتهك الصين والهند وروسيا حقوق الأقليات في بلدانها، وترغب البرازيل وجنوب إفريقيا في صناعة نموذجها الديمقراطي الخاص، وتعاني جميع هذه الدول بصورة متفاوتة من إشكالات تتعلق بمستوى الشفافية ومكافحة الفساد.
رابعًا: الاحتياج إلى وسائل وأدوات خاصة لتنمية نفوذها وتحقيق مصالحها بعيدًا عن المؤسسات المحتكرة من الدول الغربية، ولعل هذه النقاط انتقلت من كونها إطارًا جامعًا لدول بريكس إلى حبل يشد القوى الوسطى ودول العالم الثالث التي باتت تنظر إلى المجموعة بأنها أشبه ما تكون بنادي الجماهير.
بريكس اليوم والمستقبل: فرص وتحديات
تستحوذ دول بريكس على قرابة نصف السلع المتداولة عالميًّا، ومع انضمام ست دول جديدة منها ثلاث نفطية (السعودية وإيران والإمارات) تضاعفت حصة التجمع من إجمالي النفط العالمي إلى 42% بالإضافة إلى سيطرتها على 75% من إنتاج المنجنيز، و 50% من إنتاج الحديد والنحاس والرصاص، وحوالي ذات الحصة من إنتاج السكر والقمح والقهوة.
ومع اعتماد دول المجموعة على عملاتها المحلية في تداول هذه السلع، فإن هيمنة الدولار الأمريكي باتت في خطر، وبينما تظل عملية إطلاق عملة مشتركة محفوفة بالكثير من التعقيدات، تبقى التجارة الحرة بين دول المجموعة كفيلة بحصر نظام بريتون وودز، لا سيما مع استمرارية توسعة المجموعة.
إلا أن هذا المشروع الطموح لا يسلم من بعض الإشكالات ونقاط الضعف، فعلى الصعيد القيمي، تباري بريكس النظام الليبرالي بأدواته، فإشكالية دول المجموعة مع النظام الليبرالي/ الرأسمالي لا تتعلق بالجوانب الإيدلوجية والقيمية، وإنما في المحاصصة على النفوذ الدولي، وبالتالي فإن بريكس هو محاولة لتوظيف أدوات الهيمنة الليبرالية والرأسمالية لخدمة أطراف جديدة.
من النواحي المؤسسية والتنظيمية، تبدو المجموعة هشة للغاية، وأقرب ما تكون إلى إطار تعاون فضفاض، إذ وعلى عكس المؤسسات الدولية السائدة، تفتقر بريكس لوجود دولة قائدة ترسم التوجهات العامة للمجموعة، مثل الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو ألمانيا في الاتحاد الأوروبي.
كما تفتقر المجموعة إلى الأطر والنظم المؤسسية لحوكمة عملها وتنظيم آلية اتخاذ القرار فيها، في ظل عدم وجود لوائح تنظيمية وسكرتارية دائمة ونحوها من اللوائح والأجهزة التنفيذية والمساعدة، في هذا الإطار تعتمد المجموعة في قراراتها على الإجماع والقيادة المشتركة، وهي آلية غير مستدامة أثبتت فشلها الذريع في عصبة الأمم (1920-1946).
والأمر ذاته ينطبق على مبدأ تساوي المساهمات والحصص بين الدول المؤسسة، والذي يبدو آيلًا للسقوط نظرًا للتفاوت الملحوظ بين اقتصاداتها، فدخول دول جديدة في التجمع سيزيد من فرص الاستثمار والتنمية بما يجعل مضاعفة رأس المال التأسيسي ونسب المشاركة أمرًا ملحًّا تتباين فيه قدرة الدول المؤسسة، ما قد يولد الخلاف فيما بينها.
ويزداد الأمر تعقيدًا جراء الخلافات السياسية المسبقة بين الدول المؤسسة للمجموعة، أبرزها الصراع الصيني-الهندي، حيث تخوض الدولتان حربًا حدودية في منطقتي “أكساي تشين” و”التيبت”، وتتنافسان في شرق المحيط الهندي وجنوب آسيا والشرق الأوسط، كما تشارك الهند ضمن التحالف الرباعي (The Quad Alliance) والذي يضم كلا من الولايات المتحدة وأستراليا واليابان، ويهدف إلى تقليص النفوذ الصيني في المحيطين الأطلسي والهندي.
وبينما يسعى الطرفان إلى تمرير أجنداتهما ومشاريعهما الاستثمارية عبر بريكس، فمن المتوقع أن يسفر ذلك عن تصدير الخلافات بين المؤسسين، وخلق حالة من التنافس والاستقطاب فيما بينهم، وبحسب المراقبين، ضغطت بيكين على شركائها لأجل قبول إيران في المجموعة، وتأجيل الملف الإندونيسي، وعلى ذات المنوال ألحت البرازيل على قبول الأرجنتين ذات الاقتصاد المتراجع.
بالإضافة إلى ذلك، تتخذ دول بريكس مواقف متباينة من مستوى التنافس مع الولايات المتحدة، تتراوح بين وضعية موسكو المتطرفة بتحويل التجمع إلى تكتل لموازنة الثقل الأمريكي، ويقابله موقف معتدل تتبناه جوهانسبورج في الاستفادة من بريكس لتنويع الخيارات وتحسين الموقف التفاوضي مع واشنطن ولكل منهما مريدوه، ما ينذر بنشوء تكتلات داخل المجموعة وميزان قوة فيما بينها.
وبالمجمل العام يعبّر ذلك عن عجز المؤسسين عن التوافق على منظومة قيم ومبادئ للعلاقات بين أعضائها، وكذا عدم مقدرتهم على رسم توجهات عامة مشتركة لسياستهم الخارجية، ما ينعكس سلبًا على مستوى التزامهم بالمصالح العامة للمجموعة، أو حتى سعيهم للدخول ضمن تحالفات ومؤسسات موازية، باعتباره خيارًا للتوازن ضد النظراء داخل المجموعة من ناحية، والموازنة بين عضويتهم في بريكس وعلاقتهم مع واشنطن من ناحية أخرى.
وبالفعل شهدت قمة الدول العشرين G20 الأسبوع المنصرم، توقيع مذكرة تفاهم ضمت ثلاث دول بريكس، الهند المؤسسة، بالإضافة إلى السعودية والإمارات، لإنشاء ممر تجاري بين المحيط الهندي والمتوسط عبر الشرق الأوسط لمقابلة مشروع خط الحرير الصيني، بدعم وتأييد أمريكي.
خاتمةً، تأسست بريكس من قبل مجموعة من الدول الصاعدة التي تجتمع في رغبتها بزيادة نفوذها في النظام الدولي، وإدراكها باصطدام هذه الرغبة بالهيمنة الأمريكية، ويمكن القول إن بريكس في الواقع ليست مؤسسة تصبو إلى تغيير النظام الدولي بقدر ما هي تجلٍّ وانعكاس فعلي لتحول سالف في بنية النظام وانقلاب ميزان القوة إلى الحالة متعددة الأقطاب.
وفي الوقت الذي تستحوذ فيه دول المجموعة على أكثر من نصف التجارة العالمية (إنتاجًا واستهلاكًا)، وتلجأ إلى التبادلات التجارية بعملاتها المحلية، يمكن لبريكس أن تهز هيمنة الدولار والعمود الاقتصادي للنظام الليبرالي، ما يحيل نظام بريتون وودز والمؤسسات المتصلة به، على غرار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلى أنظمة ومؤسسات محصورة.
في المقابل لا تحمل بريكس منظومة قيمية بديلة، فهي إعادة توظيف الرأسمالية والليبرالية لخدمة لاعبين جدد، كما تفتقر المجموعة للأدوات المؤسسية، وتظل آلياتها في اتخاذ القرارات ونمو المؤسسة غير عملية، ولاسيما مع وجود خلافات عميقة بين الأعضاء، تهدد بنشوء تنافس داخلي وتوازنات قوة بين المؤسسين، بدأت تتجلى بالتزامن مع التوسعة الأخيرة في عضوية المجموعة.
ومن الصعب التكهن بالاتجاه الذي يمكن أن يحذوه نمو المجموعة، فيما إذا كانت ستظل تحالفًا اقتصاديًّا فضفاضًا، أو ستنتقل إلى كونها مجموعة أكثر تماسكًا وفق أطر وضوابط مؤسسية، أو إذا ما كانت الخلافات ستقود دولها إلى البحث عن مؤسسات موازية، ما يعني إما تفكك بريكس بالكلية، أو استحواذ أحد المؤسسين عليها.
المقالات التي تنشرها “بوليتكال كيز | Political Keys” على موقعها الرسمي تعبر عن آراء كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي فريق العمل والتحرير.
بوليتكال كيز – Political Keys