أحمد حسن يكتب في “بوليتكال كيز | Political keys”: تركيا مابين المنتقد المحب ومابين المنتقد الشامت
أحمد حسن
صحفي وباحث في الشأن التركي والسوري ومدير مركز القارات الثلاث للأبحاث والدراسات.
لا يكاد يخلو مقال صحفي يكتب باللغة العربية عن الملف السوري أو الملف الليبي أو الملف اليمني أو الملف الإفريقي أو الملف العراقي أو ملف مكافحة الإرهاب والتنظيمات الراديكالية إلا وتذكر فيه تركيا خلال المرحلة الحالية , ولا يكاد يخلو موقع من المواقع الإلكترونية العربية من مقالة تتناول الوضع في تركيا من ناحية العنصرية والتغيرات الداخلية والمقارنات ما بين مرحلة سابقة ومرحلة حالية , ونفس الكلام يقال في وسائل التواصل الاجتماعي وفي مساحات تويتر وفي باقي وسائل التواصل الاجتماعي بما فيها التعليقات التي لا تكاد تخلو من انتقاد تركيا أو الدفاع عن تركيا بطريقة ما.
هل هذه التطورات حالة صحية؟ وهل هي حالة إيجابية لتركيا أم حالة سلبية؟ وهل هي مع تركيا أم ضد تركيا؟ اسئلة تحتاج إلى إجابات موضوعية في زمن كثرت فيه النشاطات الموجهة وتراجعت الموضوعية إلى درجة كبيرة..
بالتأكيد الشجرة المثمرة من المعتاد أن ترمى بالحجارة، ومن يعمل كثيرا فمن الطبيعي أن ينتقد كثيرا، ومن يريد التوسع والتطوير والنجاح فمن الطبيعي أيضا أن يخطئ، لكنه يحتاج أيضا من ينتقد هذه الأخطاء ومن يصحح المسار.. ولذلك لا يمكنك رؤية هذه الانتقادات بشكل عام على أنها توجه سيء ضد تركيا، بل على العكس تماما قد تكون هذه الانتقادات جزء من آلية الدعم الشعبي لتركيا في محيطها الإسلامي ومحيطها العربي ومحيطها الإنساني، لأن نقد المحب أداة تطوير وأداة تقدم وأداة حوار ناضج للتصحيح، وبناء علاقات مستدامة.
من الطبيعي في هذا الوسط أيضا أن تكون هو هناك انتقادات ساخطة من أعداء النجاح في تركيا داخليا وخارجيا، وأن تكون بطابع الشماتة والانتقام وأن تكون بطابع التعطيل ومنع التطوير، فما يحصل هو شيء طبيعي مقارنة بالتطورات الكبيرة التي تمر بها تركيا..
لكن التعامل مع هذه الانتقادات عبر الإنكار أو عبر اتهام المنتقدين والتشكيك في أهدافهم أو عبر إهمال الناصحين وإغلاق الآذان تجاه هذه النصائح سيعتبر مشكلة خطيرة في تركيا، وقد تتطور لاحقا إلى تراجع أداء المؤسسات التركية والشروخ كبيرة في العلاقة ما بين الشعب التركي وشعوب المنطقة.
قد يلام المجتمع العربي والإسلامي الموجود في تركيا على عدم فهمه المجتمع التركي بكل أطيافه رغم تواجد هؤلاء في تركيا منذ سنوات وهذا من حق اللائمين الأتراك، وقد يلام هذا المجتمع أيضا على عدم تعلم اللغة التركية رغم الفترة الطويلة التي قضوها في تركيا وحاجتهم إلى مترجمين في كافة مؤسسات الدولة التركية ومشافيها، رغم أن المطلوب تعلم عادات وتقاليد واللغة المجتمع المضيف، كما هي العادة في أي مجتمع يستضيف موجات هجرة.
لكن في نفس الوقت أيضا يقع اللوم على تركيا في عدم تنظيم آلية دخول الأجانب إلى تركيا وعدم إلزام الأجانب بالاندماج واللغة وباقي التفاصيل , وترك الأمور على مستوى مرحلة بدائية من الإدارة والتنظيم تطورت لاحقا إلى مرحلة متشددة جدا في التنظيم والقيود والطلبات , وهذا نقل الأجانب من مستوى الراحة التامة إلى مستوى القيود المشددة وخير الأمور في ذلك أوسطها وبالتدريج وعلى مراحل , ولم تراعي المؤسسات التركية ذلك وهذا ما تلام به سياسة الحكومة التركية حاليا سواء من شعبها أو من الشعوب الأخرى التي جاءت ضيفة على هذا الشعب الكريم ومؤسسات دولته.
الجغرافيا قدر والهجرة ليست ترفا بل هي ضرورة وأول المهاجرين كان خير خلق الله محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم ومن هجره كانوا أقرباءه وقبيلته ومن استضافه كانوا أهل المدينة الذين لم يكونوا من قبيلته , وإنما كانوا حاضنته الإنسانية , لذلك لا يمكن أن ننظر إلى الهجرة على أنها هدف لكل مهاجر بل هي الضرورة يقع فيها المهاجر لأسباب لا يمتلك ردها , ومن لا يدرك أن الهجرة تفرض فهو بحاجة إلى تصحيح نظرته , ومن رأى أن المهاجر جاء من أجل السياحة في إسطنبول أو التنزه في بلاجات بحر مرمرة والمتوسط والأسود فهو واهم , ولا يدرك أن هؤلاء المهاجرين كانوا أمام خيارين إما الموت بدبابات جيشهم أو تحت قصف طيران جيشهم أو الموت في طريق الهجرة , واختاروا الموت في طريق الهجرة من أجل المحافظة على طريق الرجوع إلى هذا الوطن المسلوب سواء في هذا الجيل أو الجيل القادم.
معظم الانتقادات الموجهة للمؤسسات التركية من اللاجئين ومن الأجانب المتواجدين في تركيا ليست مطالبة بتقديم الأموال ولا تقديم الخدمات على حساب الشعب التركي، ولا أن يعيش المهاجرون حياة أفضل، وإنما هي موجهة للسياسات التي تحرم هؤلاء من إمكانية خدمة هذا الشعب والبلد الذي قدم لهم الأمن والأمان، في حين حرموا من الأمن والأمان على يد الدولة التي ترعاهم والجيش الذي يفترض أن يحميهم، والمؤسسات التي يجب أن تتولى رعايتهم في سوريا أو دولة أخرى.
معظم الذين لم يخرجوا من تركيا رغم كل القوافل التي خرجت من تركيا باتجاه أوروبا كان لهم هدف واحد وهو أنهم يريدون أن يسمعوا صوت الأذان وأن يعيشوا ضمن شعب مسلم مشبه لهم في العقلية وفي الفكر وفي التوجهات الإنسانية وأن يكونوا منتجين مساهمين في بناء هذا البلد المضيف ورد الجميل للشعب التركي وللمؤسسات التركية على أن يكونوا عالة على مؤسسات الخدمة الاجتماعية في الدول الأوروبية , ولا يمكن لأي واحد من هؤلاء أن يكون في يوم من الأيام واحدا من أسباب تراجع الاقتصاد التركي أو تراجع خط الإنتاج الصناعي أو الزراعي أو أن يكون واحد من هؤلاء جزء من تهديد الأمن القومي ..
لقد بات من حق هؤلاء أن يكونوا بعيدين عن التجاذبات السياسية، وبعيدين عن منصات الكذب الممنهج والتضليل والاستخدام السيء للمعلومات وتصفية الحسابات السياسية وبات من حق هؤلاء أن يكونوا بعيدين عن مزاجية الموظفين الذين ينفذون القوانين على مزاجهم، وهذا الحق ليس بعيدا عن القوانين التركية، بل هو من صميم القوانين التركية التي يطالب بها اللاجئ والسائح والزائر والمقيم والمستثمر لأنها تنصفه وتنصف العلاقة الجيدة ما بين الشعوب في المنطقة..
حاليا يوجد توجه في تركيا من أجل تأسيس دولة العدالة والرفاه للمواطنين والشعب التركي وهذا التوجه من الفريق الاقتصادي يحتاج مراعاة نفس التوجه في وزارات أخرى مثل وزارة الداخلية ووزارة السياحة ووزارة التجارة والاقتصاد والمديريات التابعة لكل وزارات الحكومة وإلا فإن الخطة الاقتصادية لن تأتي بأي نتيجة مهما كانت الخطة محكمة , فيكفي لأي قرار من وزارة أخرى أو أي مزاجية من موظف في أي وزارة أو مديرية تدمير هذه الخطة وتحويلها من خطة ناجحة إلى خطة فاشلة ومكلفة قد تدمر الاقتصاد التركي وتدمر مستقبل تركيا أيضا..
لا يوجد مطلب من مطالب ضيوف الشعب والمؤسسات التركية من اللاجئين والسائحين والمستثمرين خارج النطاق القوانين التركية أو خارج نطاق مصالح الشعب التركي ومصالح المؤسسات التركية بل على العكس تماما هذه المطالب كلها تخدم خط الإنتاج والتوظيف والتصدير والعدالة الاجتماعية والأمن القومي التركي ومصالح تركية الاستراتيجية ولذلك لا يمكن الاستهانة بهذه المطالب بحجة الانتخابات وبحجة السياسة المؤقتة لأن المصالح المستدامة هي الأهم ولأن الرفاه لا يأتي بقرار ناخب وإنما يأتي من مجتمع صحيح ومعافى وخالي من العنصرية والكراهية ومن الصدامات الداخلية ونحن كمهاجرين ولاجئين أكثر من يعرف تكلفة الصدامات الداخلية وكيف تدمر الأوطان والعائلات وتزيد في المقابل والمعتقلات ويصبح الوطن بعدها حلما صعب المنال – حما الله الشعب التركي والمؤسسات التركية مما ابتلي به الكثير من اللاجئين والمهاجرين- ولذلك يصبح تطبيق القانون بعيدا عن المزاجية وبعيدا عن مزاج صفحات التواصل الاجتماعي المستندة بالأساس إلى مجموعات الذباب الإلكتروني و المدارين من الخارج أو من أعداء تركيا أهم مخاطر الأمن القومي وأهم التهديدات المجتمع التركي وأهم تهديدات مستقبل تركيا.
لقد مضت أكثر من عشر سنوات على ثورات الربيع العربي وجاءت موجات متعددة إلى تركيا قبل هذه الثورات وبعدها, ودول هذه الثورات ستشهد يوما ما إعادة إعمار طويلة ومفيدة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وسيكون هؤلاء اللاجئون المتواجدون في تركيا وأولادهم الذين درسوا في مدارسها أهم أداة من أدوات التواجد التركي في هذه الدول على المستوى الاقتصادي وفي إعادة الإعمار وعلى المستوى الاجتماعي , ويساهم ذلك في بناء سلام مستدام لتركيا مع كل هذه المجتمعات ويساهم أيضا في بناء علاقة اقتصادية طويلة الأمد وعلاقة اجتماعية أطول , وهذا ما يجب أن يعرفه الشعب التركي الآن ولاحقا , أكثر من الخطاب الذي يذكر حاليا عن مشكلات اللاجئين وعن تهديدهم للأمن القومي وعن كونهم عالة على المجتمع التركي وخزينة الدولة التركية , من المعلومات الخاطئة وغير الصحيحة ..
هؤلاء اللاجئون هم أهم شركاء الشركات التركية الكبيرة التي ستدخل في إعادة الإعمار في سوريا واليمن والعراق وليبيا ودول أخرى وكل ساعة من الساعات المنتجة حاليا في التعاون ما بين الشعب التركي وهذه الشعوب سيساهم في زيادة رصيد تركيا في دول النزاعات في إعادة الإعمار وفي المصالح المستدامة , وهذا هو أهم مكسب استراتيجي للمرحلة الحالية والقادمة ويكفي لدفع الفريق الاقتصادي وباقي المؤسسات التركية من أجل الاقتناع بضرورة تغيير آلية التعامل مع المهاجرين واللاجئين , والنظر إليهم على أنهم مكسب استراتيجي والبحث عن كيفية الاستثمار فيهم , بعد أن تأخر هذا البحث إلى درجة خروج الكثير من المفيدين لتركيا إلى دول أخرى قد تكون في يوم من الأيام منافسة لتركيا وهذه نصيحة محب لتركيا وستبقى نصيحة محب.
المقالات التي تنشرها “بوليتكال كيز | Political Keys” على موقعها الرسمي تعبر عن آراء كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي فريق العمل والتحرير. بوليتكال كيز – Political Keys