الحرمان القسري: الكشف عن سياسة نظام الأسد بشأن إعادة الإعمار المحلي
بقلم: منقذ عثمان أغا
المصدر: معهد الشرق الأوسط
ترجمة: بوليتكال كيز – Political Keys
مع انقشاع غبار موجة التطبيع العربي مع النظام السوري، لا تزال التساؤلات تدور حول تأثيرها على الحياة اليومية للسوريين وعملية إعادة بناء بلدهم. هناك عدد من الأسباب تدفعنا لعدم التيقن بشأن توفير أموال إعادة الإعمار في المستقبل القريب، حيث إن خارطة طريق جامعة الدول العربية لم تتضمن أي التزامات للمساعدة المالية أو أموال إعادة الإعمار، لا سيما بالنظر إلى التحول الأخير لدول الخليج نحو سياسات المساعدات المشروطة، ناهيك عن استمرار احجام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تطبيع العلاقات مع بشار الأسد.
على الرغم من المساعدات الإنسانية والمالية الكبيرة التي تلقتها دمشق بعد زلزال شباط/ فبراير 2023، تم رفع العقوبات مؤقتًا، إلا أن الاقتصاد السوري لم يتعافَ، حيث وصل سعر صرف الليرة السورية إلى 9500 ليرة مقابل الدولار بحلول تموز/ يوليو 2023. وهذا يشير إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار العوامل الهيكلية والداخلية للأزمة الاقتصادية في البلاد.
لا شك في أن سوريا تعاني من أزمة مالية عميقة بسبب سنوات الحرب المدمرة والعزلة الاقتصادية. ومع ذلك، فإن العوامل المحلية مثل تحويل الإنفاق العام، والفساد ، وتسييس المساعدات يجب أن تدرس أيضًا.
توفر الدراسة حول إستراتيجيات النظام السوري لإدارة وتخصيص أموال إعادة الإعمار المحلية، رؤى مفيدة حول الشكل الذي ستبدو عليه إعادة الإعمار في عهد الأسد إذا توفرت أي أموال خارجية، نظرًا للعقبات التشغيلية والقانونية والأمنية والسياسية والبيروقراطية الحالية.إحدى العقبات الهيكلية الرئيسية أمام تعافي سوريا هي سياسة الإنفاق المحلي على إعادة الإعمار التي طبقها النظام منذ السنوات الأولى للصراع السوري.
لهذه السياسة خاصيتان: تحويل الموارد المحلية المخصصة لأغراض إعادة الإعمار لإعادة تأهيل المنشآت في المناطق والقطاعات التي تفيد النظام ودائرته الداخلية، وإلقاء عبء إعادة تأهيل الممتلكات على السوريين أنفسهم.
لتمويل هذه السياسة، استغل النظام أربعة موارد رئيسية، بما في ذلك فرض ضرائب إعادة الإعمار المتعددة، وتحويل مشاريع التعافي المبكر وإعادة التأهيل التابعة للأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية، والاستفادة من حملات التمويل الجماعي بقيادة محلية، وإجبار السوريين على تحمل تكلفة إصلاح ممتلكاتهم الخاصة.
تشير التقديرات إلى أن النظام السوري من الممكن أن يكون جمع أكثر من 2.7 مليار دولار لأغراض إعادة الإعمار من الموارد المحلية منذ عام 2013. وفي حين أن هذا المبلغ لا يزال يمثل جزءًا صغيرًا من إجمالي المبلغ المطلوب لإعادة بناء سوريا بالكامل، إلا أنه من الممكن أن يكون كافياً لإعادة إعمار عدد ضخم من الممتلكات والمرافق العامة.
لوضع هذا التقدير في المنظور الصحيح، بحسب تقييم أجرته الأمم المتحدة في عام 2022 فإن التكلفة الإجمالية لأضرار القطاع السكني في حمص، والتي تشمل 200,000 وحدة سكنية متضررة، تصل إلى 1.3 مليار دولار تقريبًا. في تقرير آخر للبنك الدولي قدرت التكلفة الإجمالية للأضرار المادية في أكبر 14 مدينة مزقتها الحرب في سوريا تتراوح بين 5.8 مليار دولار و 7.8 مليار دولار.
هناك القليل من الأدلة على أن النظام السوري استخدم بشكل فعال أموال إعادة الإعمار المحلية لإصلاح الأحياء والبلدات المتضررة أو الحد من الدمار الشامل. وبدلاً من ذلك، فقد تلاعب النظام السوري بالأموال والمساعدات المخصصة لإعادة الإعمار والتعافي المبكر وتحويلها واستنزافها.
الاستيلاء على أموال إعادة الإعمار دون إعادة الإعمار
بعد عامين فقط من اندلاع الصراع السوري في عام 2011، طبق النظام أول ضريبة على إعادة الإعمار، عُرفت باسم المساهمة الوطنية. ضريبة إضافية بنسبة 5٪ على جميع الضرائب والرسوم الأخرى (باستثناء ضريبة الدخل)، وتمت زيادتها لاحقًا إلى 10٪ في عام 2017.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أنه بين عامي 2014 و 2022، بلغ إجمالي الإيرادات العائدة من ضرائب إعادة الإعمار حوالي 645 مليار ليرة سوريا (أي حوالي 739.6 مليون دولار).
بالإضافة إلى ذلك، تم تخصيص ميزانية سنوية قدرها 50 مليار ليرة سوريا، والمعروفة باسم ائتمان إعادة الإعمار، مما أدى إلى تخصيص 480 مليار ليرة سوريا أخرى (حوالي 1.93 مليار دولار) منذ عام 2013. وتهدف كل من ضريبة إعادة الإعمار وائتمان إعادة الإعمار إلى تمويل المشاريع التي وافقت عليها لجنة إعادة الإعمار، وهي هيئة أنشأها رئيس الوزراء عام 2012 للإشراف على خطط إعادة التأهيل الحكومية وتقديم تعويضات للمواطنين.
ومع ذلك، في التحقيق الذي أجراه مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد، سراج وكشف التمويل في عام 2021، كشف أنه من أصل 380 مليار ليرة سوريا التي خصصتها الحكومة في ذلك الوقت لإعادة الإعمار، تعهدت اللجنة بـ 263 مليار ليرة سوريا فقط. هذا الافتقار إلى الشفافية ليس مفاجئًا بأي حال من الأحوال، لكن التحقيق يشير إلى انحياز خاص في توزيع الأموال:
“توجهت غالبية هذه الأموال نحو إعادة تأهيل المباني الحكومية والعسكرية، بينما تم استخدام أقل من 10٪ من هذا المبلغ لإعادة بناء منازل المواطنين”.
ويمكن العثور على مزيد من الأدلة التي تؤكد هذا الادعاء في قائمة مشاريع اللجنة في عام 2018 حيث تظهر البيانات بوضوح أن جزءًا كبيرًا من الأموال – أكثر من 52٪ ، تصل إلى 34.8 مليار ليرة سوريا – مخصصة لإعادة تأهيل المباني الحكومية والمقرات الأمنية، بينما أقل من 2.5٪ مخصصة لقطاع الإسكان.
في الواقع، المشروع الأكثر طموحًا الذي أعلنت عنه وزارة الإدارة المحلية، وهو محاولة لإصلاح 3000 منزل في الغوطة الشرقية تم كشف النقاب عنه في أيار/ مايو 2019 ، لم يتم تمويله من قبل الحكومة على الإطلاق، ولكن من قبل ائتلاف من المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية (بما في ذلك الهلال الأحمر العربي السوري، والثقة السوريا) ويبدو أنها لم تتحقق.
في حين أن البعض قد يجادل بأن سياسة “الحكومة” كانت تقديم تعويضات للأشخاص بدلاً من إعادة تأهيل ممتلكاتهم بشكل مباشر. ومع ذلك، تشير الأدلة المُستخلصة من مصادر متعددة إلى أن الممارسات المتعلقة بهذا الأمر لم تكن خالية من الشك.
تشير البيانات الممتدة من عام 2015 إلى 2018 إلى أنه من بين أكثر من 313 مليار ليرة سوريا مخصصة لإعادة الإعمار، تم تخصيص مبلغ قدره 19 مليار ليرة سوريا فقط لتعويض 56390 مواطنًا عن الأضرار التي لحقت بممتلكاتهم. وعلى الرغم من وجود عدد أكبر بكثير من الطلبات، إلا أنه تمت الموافقة على أقل من 9٪ من الطلبات في ريف دمشق بحلول نهاية عام 2018. وعادةً، يغطي التعويض ما بين 30٪ و 40٪ من تكلفة الأضرار التي تم الإبلاغ عنها، وتصل قيمة التعويض إلى 10 مليون ليرة سوريا.
ومع ذلك، فإن المتقدمين تلقوا في المتوسط حوالي 300,000 ليرة سوريا، وهذا يعادل حوالي 600 دولار اعتبارًا من عام 2018، وفي معظم الحالات التي تم فيها منح التعويض، كانت المناطق التي تعرضت لأضرار أقل نسبيًا مثل حمص وحماة هي التي حصلت على التعويض. وهذا أدى إلى توفير تمويل أقل للمناطق التي تعرضت لأضرار شديدة، مما أثار شكوكًا في عملية الاختيار وأثار مخاوف بشأن الفساد والتحيز السياسي.
علاوة على ذلك، يُطلب من المتقدمين تقديم إثبات ملكية العقارات وخطابات التخليص من شركات الكهرباء والماء، مما يخلق حواجز أمام أولئك الذين يعيشون في المناطق العشوائية دون وثائق ملكية رسمية وفي مناطق المعارضة السابقة حيث تعطلت الخدمات لسنوات.
وشمل تركيز النظام على إيجاد المزيد من التمويل لإعادة الإعمار حتى المصادر الصغرة. على سبيل المثال، تم فرض ضريبة إعادة الإعمار على التحويلات منذ أيار/ مايو 2021 ، بخصم ثابت قدره 2650 ليرة سوريا على أي تحويل وارد من الخارج، مما يسلب الأموال من آلاف الأسر السوريا التي تعتمد على هذه التحويلات كوسيلة وحيدة للدعم المالي.
استنادا إلى التحويلات اليومية المقدرة بين 5 ملايين دولار و 7 ملايين دولار، فإن النظام ربما قد جمع ما بين 59 مليار و 114 مليار ليرة سورية (بما يعادل من 28 مليون دولار إلى 54 مليون دولار) من هذه الضريبة حتى الآن. ونظرًا لعدم إضفاء الطابع الرسمي على هذه الضريبة بعد، فإن مساهمتها في جهود إعادة الإعمار لا تزال غير مؤكدة.
وعلى نطاق أصغر، منذ عام 2013 يتطلب الختم الخاص بالمعاملات الحكومية المتعلقة بإعادة الإعمار تكلفة تصل إلى 50 ليرة سورية، ولكن طالب بعض المسؤولين بشكل تعسفي أسعار أعلى تصل إلى 5000 ليرة سورية لنفس الطابع.
السوريون يدفعون مرة أخرى لإعادة الإعمار
يتضمن الجانب الثاني من سياسة النظام للانسحاب من التزامه بإصلاح وإعادة تأهيل الممتلكات والبنية التحتية المتضررة، وينتقل بدلاً من ذلك إلى المبادرات المحلية والمنظمات غير الحكومية الدولية والأفراد العاديين. ونتيجة لذلك، يترك السوريون لأنفسهم لملء هذه الفجوات.
في الواقع، على الرغم من المساعدة الكبيرة التي تقدمها الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية، إلا أن إصلاح المنازل والبنى التحتية العامة لم تكن أولوية بسبب تكلفتها العالية ونطاقها الذي يتجاوز الأهداف الإنسانية.
على سبيل المثال، في عام 2021، نجحت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في إصلاح 105 منازل فقط في مدينة دير الزور، في حين قامت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) بإصلاح 170 منزلاً في مدينة درعا بين عامي 2020 و 2022، وتحتوي المدينتان على الأقل 6400 و 1500 منزل متضرر.
إعادة تأهيل المساكن التي تقدمها المنظمات الإنسانية ليست محدودة فقط، بل هي أيضًا مُسيّسة للغاية نظرًا لتأثير النظام على اختيار المواقع والمستفيدين. عادةً ما يتم استبعاد المناطق غير الرسمية والتي تعرضت لأضرار شديدة من هذه المشاريع، حيث يكون الدمار قد حصل بالفعل في تلك المناطق. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يتم إعطاء الأولوية لعائلات “الشهداء والجرحى”، ويبدو واضحًا أنه يتم إعطاء الأولوية للمجتمعات الموالية للنظام.
رداً على ذلك، ظهرت مبادرات شعبية محلية في أجزاء مختلفة من البلاد، مثل درعا وحمص وريف دمشق، والتي غالباً ما يقودها فاعلون في المجتمع الديني والقبلي والمدني. إحدى المبادرات البارزة قادها زعماء القبائل في عدة مجتمعات في محافظة درعا.
هدفت الحملة إلى جمع التبرعات من السكان المحليين والشركات، لتمويل الخدمات وإصلاح البنية التحتية مثل الآبار والمدارس، حيث تم جمع ما يصل إلى 31 مليار ليرة سورية (4.5 مليون دولار). وفي حالة أخرى ، بادر أكثر من 3000 متطوع في مخيم اليرموك بدمشق لإزالة الأنقاض من شوارع المخيم الرئيسية.
يشجع النظام مثل هذه المبادرات عندما يتمكن من جني فوائد سياسية أو اقتصادية منها. على سبيل المثال، وبهدف معالجة العودة المحدودة إلى معرة النعمان التي تعاني من عدم وجود الخدمات بعد ثلاث سنوات من سيطرة النظام، حثت دمشق وجهاء العشائر والميليشيات المحلية على المساهمة في إعادة تأهيل مبنى المجلس المحلي والطرق الرئيسية، وكذلك تقديم الدعم المالي لتشجيع العائلات النازحة على العودة، حيث تم منح ما يصل إلى مليون ليرة سورية لكل أسرة أي حوالي 120 دولارًا).
علاوة على ذلك، أشارت التقارير الواردة من درعا إلى أن النظام لم يحاول فقط تبني تلك المشاريع من خلال التأكد من تواجد المسؤولين الحكوميين أثناء الحملة، بل طلب أيضًا حصة من الأموال التي تم جمعها وأكد ملكية الحكومة للمشاريع المنفذة مقابل السماح بتنفيذ هذه الأنشطة.
إن المشاركة المحلية في جهود إعادة التأهيل ليست طوعية دائمًا كما يروج لها. حيث أنه في كانون الثاني (يناير) 2023، أمر مجلس محافظة دمشق سكان مخيم اليرموك بإزالة مبانيهم المنهارة في غضون شهر وهددهم بأن المجلس سيحاسبهم على إزالة الأنقاض إذا لم يمتثلوا لذلك. وقد لوحظت ممارسات مماثلة في مناطق أخرى تضررت بشدة مثل القابون، حيث مُنح الناس ستة أشهر لإعادة تأهيل ممتلكاتهم.
حتى لو وجد الناس الوسائل المالية لإعادة تأهيل ممتلكاتهم المتضررة، فلا يزال يتعين عليهم التعامل مع العديد من العقبات البيروقراطية والأمنية، بما في ذلك إثبات الملكية، والحصول على تصاريح البناء، واجتياز فحص السلامة الفني (الذي قد يكلف ما يصل إلى مليون ليرة سورية أو حوالي 120 دولارًا)، والحصول على تصاريح أمنية، وهي عملية غالبًا ما تكون مليئة بالفساد ومطالبات الرشاوى.
لا تزال المخاطر والعقبات موجودة حتى بعد إعادة تأهيل الممتلكات. فمن المخاطر الرئيسية هو التهديد بمزيد من النهب. قد تتعرض المنازل التي تم إصلاحها للنهب مرة أخرى من قبل المليشيات والعصابات المحلية التابعة لوحدات النظام العسكرية والأمنية.
على سبيل المثال، في قرية العوينات في اللاذقية، حيث تمكن السكان من إعادة تأهيل 38 منزلاً عند عودتهم، تم نهب 27 من هذه المنازل للمرة الثانية (بما في ذلك النوافذ والأبواب والأجهزة الكهربائية ومحتويات المباني مثل الحديد و الأسلاك الكهرباء النحاسية) ، مما يجعلها غير صالحة للسكن مرة أخرى.
و من منظور قانوني، قد يواجه أولئك الذين يعيدون تأهيل منازلهم في المستوطنات العشوائية، خطر الهدم من قبل البلدية. ولزيادة الطين بلة، يضطر العائدون في كثير من الأحيان إلى التوقيع على وثائق التنازل عن حقوقهم في الممتلكات التي أعيد تأهيلها دون أي تعويض إذا تم اعتبار المنطقة ضمن منطقة التنمية الحضرية.
تؤدي جميع هذه العوامل إلى توزيع غير متكافئ لإعادة التأهيل في جميع أنحاء البلاد، مما ينتج في نهاية المطاف عن تفضيل الأحياء التي ينتمي إليها غالبية السكان المحليين للنظام، أو التي تتمتع بنفوذ الجماعات الأمنية والميليشيات الموالية للنظام. على سبيل المثال، أظهر تقييم لكروب كرايسيس في حلب أن معظم أعمال إعادة الإعمار تركزت في الأحياء الموالية للنظام وتحت سيطرة الميليشيات مثل السكري والقطرجي، بينما كانت عدد المشاريع المنفذة في الأحياء التي يسيطر عليها الاتحاد الديمقراطي مثل الشيخ مقصود كان ضئيلاً.
التغلب على تحديات إعادة التأهيل في سوريا
الواقع الكئيب لإعادة الإعمار في سوريا له جانبان: فالنظام لا يحرم السوريين فقط من المساعدة في إعادة بناء حياتهم، بل يساهم أيضًا في إساءة استخدام الأموال التي ينبغي إنفاقها على الإعمار. بالإضافة إلى ذلك، يتعرضون لأطر أمنية وقانونية وتشغيلية معيبة عندما يُجبرون على القيام بذلك بأنفسهم.
سياسة إعادة الإعمار الحالية تعاني بشدة لأسباب متعددة:
أولاً ، السياسة انتقائية للغاية على مستويات متعددة. من الناحية الجغرافية، يعطي الأولوية للمناطق التي تقدم فوائد اقتصادية وسياسية أكبر، مع إهمال البلدات والأحياء الفقيرة وغير الرسمية والمدمرة للغاية. سياسيًا ، يهمش النظام مناطق المعارضة السابقة بهدف إعادة تشكيل نسيجها الاجتماعي والاقتصادي. من الناحية الاقتصادية ، يعطي الأولوية لمشاريع التنمية الحضرية اليبرالية على حساب الإسكان الميسور، والزراعة، والقطاعات الصناعية.
ثانيًا، ينقل مسؤولية تقديم الخدمة من الدولة إلى الشعب، مما يضع عبئًا مزدوجًا على عاتق السوريين. فمن ناحية، يفرض النظام ضرائب عليهم مقابل إعادة الإعمار، لكنه يحول الإنفاق العام والمساعدات التي كان من الممكن استخدامها لإصلاح ممتلكاتهم وبنيتهم التحتية.
من ناحية أخرى، فإنه يجبرهم على تحمل تكاليف إزالة الحطام وإعادة التأهيل وتوفير الخدمات الأساسية.
ثالثًا، يُديم ممارسة اقتصاد الحرب في سوريا. والتي وتتضمن الدائرة الكاملة التي تبدأ بتدمير الممتلكات ونهبها وتشريد السكان، وتستمر بالتلاعب في إمدادات مواد البناء وابتزاز العائدين، واستيلاء على الأراضي في المناطق ذات الدخل المنخفض لصالح مشاريع التنمية الحضرية المربحة. يتورط هذا النظام اقتصاديًا بعمق في اقتصاد الحرب.
تخدم هذه الدائرة فقط مصالح الأشخاص المرتبطين بالنظام والمتواجدين داخل الدائرة المقربة منه، بما في ذلك الجهاز العسكري والأمني، وأمراء الحرب، ورجال الأعمال المرتبطين بالنظام.
قد يكون لهذه الجهات الفاعلة نفسها اهتمام ضئيل بالتراجع عن مثل هذه الأنشطة المربحة للسماح بإجراء عملية إعادة إعمار فعالة وشفافة، ناهيك عن أن النظام نفسه قد يفتقر إلى القوة اللازمة لضمان امتثال هذه الجهات الفاعلة لأي إصلاحات.
ليس واضحًا ما إذا كان هذا خيارًا استراتيجيًا من قبل النظام أو رد فعل انتهازي لسلطته واقتصاده المتداعي. ومع ذلك، فإن ما هو واضح هو أن البلاد تفتقر إلى الإجماع الدولي الضروري، فضلاً عن الأسس الأمنية والسياسية والقانونية الأساسية لجذب الاستثمارات واسعة النطاق وإدارتها بشكل فعال وتمويل إعادة الإعمار. فعلى أمل تعزيز عودة اللاجئين والمشردين داخليًا، قد تبدأ بعض الدول الإقليمية والخارجية في التحول نحو التعافي المبكر وأنشطة إعادة التأهيل الخفيفة. و على الرغم من أن هذا التحول مطلوب بشكل عاجل، إلا أنه يأتي مع تحديات قانونية وأمنية وسياسية كبيرة، يجب أن تكون هذه الدول على دراية كاملة بها. لا تتطلب إعادة بناء المنازل والبنية التحتية السوريا موارد مالية فحسب، بل تتطلب أيضًا نهجًا فعالاً وخاضعًا للمساءلة وشفافًا.
الحفاظ على الواقعية حول ما يمكن إنجازه، والاعتراف بأن تجاوز النظام بالكامل غير ممكن حاليًا، فإن السبيل الوحيد للمضي قدمًا هو من خلال المفاوضات السياسية مع دمشق لتعزيز البيئة التشغيلية قبل تخصيص أي أموال. يجب أن تشمل هذه العملية عدم تسييس المساعدة وضمان الوصول غير المشروط إلى إعادة التأهيل الخفيفة ومساعدة التعافي المبكر لجميع السوريين، بما في ذلك أولئك الموجودون في المناطق الشمالية الغربية والشمالية الشرقية.
في حين، أن وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية يمكنها في المقام الأول التعامل مع إعادة تأهيل المرافق العامة وإزالة الحطام من الشوارع الرئيسية، يمكن إعادة تأهيل المساكن مباشرة من قبل السكان من خلال المساعدة المالية التي تقدمها المنظمات غير الحكومية الدولية. لتمكين عملية فعالة ومنصفة، يجب تحسين ثلاثة مجالات رئيسية تتعلق ببيئة التشغيل:
- إعطاء دور أكبر للمنظمات والجهات الفاعلة في المجتمع المدني وممثلي المجتمعات المحلية في اختيار المواقع والمستفيدين .
- تسهيل الإجراءات الأمنية والبيروقراطية المتعلقة بالحصول على التصاريح ومواد البناء وتعزيزها.
- ضمان أمن الممتلكات وحمايتها من النهب والمصادرة، وحماية أصحابها من الاعتقال التعسفي والابتزاز.
من المؤكد أن قول كل هذا أسهل من فعله، على الرغم من أن العمل في ظل الوضع الراهن لن يهدر أموال المانحين فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى استمرار فساد النظام واقتصاد الحرب. إن التمسك بمبدأين أساسيين أمر حتمي: يجب ألا يوضع عبء إعادة الإعمار على كاهل السوريين، ولا ينبغي مكافأة الأسد ورفاقه بالتمويل لإعادة بناء الضرر الذي تسببوا فيه هم أنفسهم.
ترجمة: محمد نور شاكر