التكاليف الجيوسياسية التي تدفعها الولايات المتحدة بسبب الخلل في الميزانية
بقلم: دانيال باير
المصدر: مجلة الفورين بوليسي
ترجمة: بوليتكال كيز
إن اللغز الاستراتيجي الجيوسياسي الأساسي الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم هو كيفية إدارة التراجع النسبي للقوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، مع الحفاظ على قيادة الولايات المتحدة ونفوذها لحماية أمن البلاد وازدهارها.
فبعد حقبة طويلة من التفوق العالمي الذي لا جدال فيه، تحتاج الولايات المتحدة إلى معرفة كيفية الاستمرار في القيادة باستخدام عدد أقل من أدوات الهيمنة مما كانت تحت تصرفها من قبل.
إنّ القوى المهيمنة القوية لا تحتاج إلى استراتيجيات معقدة بشكل خاص، ولكن الولايات المتحدة التي لا تتمتع بالهيمنة الكاملة اليوم تحتاج إلى أن تصبح أكثر ذكاءً فيما يتعلق بكيفية الحفاظ على نفوذها العالمي ونشره.
إنّ جزءًا من كونها جهة فاعلة استراتيجية أكثر تطوراً هو تطوير أساليب جديدة للسياسة العالمية، على سبيل المثال، التعاون بطرق أكثر مرونة ومرونة مع الجهات الفاعلة ذات التفكير المماثل لمواجهة التحديات التي لم تعد واشنطن قادرة على مواجهتها بمفردها.
والشرط الأساسي الأكثر أهمية هو الحفاظ على رأس المال السياسي وإنفاقه بحكمة، وقبل كل شيء، من خلال تجنب الأخطاء غير القسرية التي تقلل من قوة الولايات المتحدة دون أي فائدة للأميركيين.
إنّ المعركة المتصاعدة بشأن الميزانية والإغلاق المحتمل في واشنطن هي أحد هذه الأخطاء غير القسرية، ولن تعود بالنفع على البلاد وستقلل من قوتها. على سبيل المثال “المعركة حول الميزانية” وهي في هذه المرحلة معركة بين الأجنحة الراديكالية والتيار الرئيسي للحزب الجمهوري في الكونجرس، والتي عجز رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي عن السيطرة عليها، وهي الآن تمثل إلهاءً يهدد بالتصعيد في الأسابيع المقبلة وتستهلك طاقات الكونجرس والبيت الأبيض في لحظة تتسم بحرب أوروبية كبرى، وتوترات مع الصين، ومخاطر مرتبطة بالاختراقات الهائلة في مجال الذكاء الاصطناعي، والجهود المستمرة لاحتواء الضغوط الاقتصادية العالمية.
عندما يلعب المشرعون مسرحية سياسية غير ضرورية، يصرفون انتباههم عن القضايا الوطنية والدولية الملحة التي لا تنتظر انتهاء العرض.
إنّ مشاكل مكارثي الحالية هي الفصل الأخير في قصة الفشل طويلة الأمد، والعجز المتكرر للكونغرس الأمريكي عن تمرير الميزانية الفيدرالية بشكل موثوق لا يؤدي إلى تشتيت الانتباه فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى إنفاق غير فعال، وإنّ التدابير المؤقتة توسع سوء الإنفاق الحالي وتفشل في تحديد أولويات ميزانية جديدة عاجلة.
ومن الأمثلة على ذلك، قد تؤدي الميزانية التي يتم التفاوض عليها بشكل صحيح إلى تحويل الموارد نحو الأولويات مثل مساعدة المجتمعات الأمريكية في مواجهة الكوارث المناخية، وزيادة الاستثمار في التنمية الاقتصادية في أمريكا الوسطى للحد من ضغوط الهجرة، وإلغاء الإنفاق الذي قد لا يكون له مبرر.
عندما كانت للولايات المتحدة المال والقوة لتوفيرها في تنفيذ أهدافها في الأمن الداخلي والدفاع والتجارة والشؤون الخارجية، لم يكن للإهدار المالي والموارد غير المتوازنة تأثير كبير. ولكن بينما تبحر البلاد في عالم أكثر تنافسية، إن عملية الميزانية المتعثرة هي بمثابة طائر القطرس الاستراتيجي.
فضلاً عن ذلك فإن خدعة الميزانية تبدو طفولية… فهل تتصرف أقوى دولة في العالم على هذا النحو؟ تنشر وسائل الإعلام الإخبارية في جميع أنحاء العالم تقارير عن حقيقة مفادها أن الحكومة الأمريكية بأكملها قد يتم إغلاقها لأن قادتها لا يستطيعون التعامل مع العملية التشريعية الأساسية. ففي زمن الصراع العالمي بين الديمقراطية والاستبداد، عندما تحتاج الولايات المتحدة إلى حصد القوة التي تمثلها، فإن خدع الميزانية السنوية تحط من تلك القوة وتضرب مثالًا سيئًا حقًا للديمقراطية المتقدمة.
وإذا كان الحزب الشيوعي الصيني مقتنعًا بأن الولايات المتحدة قد دخلت عصرًا من الانحطاط والانحدار العنيد، فإن سيرك الميزانية يشكل دليلًا يدعم فرضيته…
وفي هذا السياق، هناك عدة حلقات تشكل مشكلة. الحلقة الأولى هي نظام تمويل الحملات الانتخابية المكسور، حيث يؤثر المال على النتائج السياسية، مما يجعل السياسيين مضطرين لجمع التبرعات إذا كانوا يرغبون في الفوز بالانتخابات أو إعادة انتخابهم، كما يمتلك المتبرعون للحملات الانتخابية – سواء كانوا مليارديرات فردين أو صغار المساهمين – نفوذًا كبيرًا، ويمكنهم توجيه هذا النفوذ بطرق معينة تؤثر على عملية الديمقراطية.
في عام 2016، تم ذكر حادثة مثيرة تشير إلى هذا الوضع، حيث تمت محادثة مع عضو جمهوري في مجلس الشيوخ الأمريكي. وتم طرح سؤال من قبل أحد المانحين الرئيسيين للحزب للسيناتور: “هل أنت مستعد لإيقاف قضاة المرشحة الرئاسية الديمقراطية هيلاري كلينتون؟”، ورد السيناتور بسؤال: “حسنًا، ماذا تقصد – إلى متى؟”، وأجاب المتبرع: “أربع سنوات”. هذا يظهر كيف يمكن استخدام الدعم المالي لتحقيق أهداف سياسية معينة والتأثير على العملية الديمقراطية.
هناك بعض الأشخاص يزعمون أن صغار المانحين على مستوى القاعدة الشعبية يقدمون دعمًا صديقًا للديمقراطية في مواجهة النفوذ السياسي لأصحاب الملايين والمليارات، ومن المؤكد أن شبكة الإنترنت جعلت من الممكن لصغار المانحين المشاركة بشكل جماعي ومنافسة النخب الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، دخل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التاريخ في عام 2020 حينما تم تمويل معظم حملته الانتخابية من تبرعات صغيرة تقل عن 200 دولار.
ومع ذلك، يجب ملاحظة أن إضفاء الطابع الديمقراطي على عملية جمع الأموال السياسية من قِبَل صغار المانحين لا يؤدي بالضرورة إلى تقليل المطالبات الموجهة إلى الساسة لتجنب التسوية وتسريع الخلل الوظيفي. حيث تستخدم حملات جمع التبرعات من صغار المانحين الأكثر فعالية الخوف والغضب لدفع الناس إلى التبرع.
إنّ الجهات المانحة التي يتم جذبها من خلال مثل هذه الرسائل تمارس ضغطًا على الساسة بنفس الفعالية التي يمارسها المليارديرون، وهذا ما حدث مع مكارثي على سبيل المثال.
عندما يكون هناك مجموعة وطنية من المانحين الهامشيين الذين يمكنهم دعم المشهد السياسي بالمال، فإن المشرعين قد لا يلتفتون بكثرة إلى احتياجات ناخبيهم أو إلى توجيهات قيادة الحزب.
وفي سياق متصل، فإنّ زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن الأسبوع الماضي كانت ضرورية جزئيًا بسبب تعقيد دعم مقاومة أوكرانيا للغزو الروسي غير المبرر في معركة الميزانية.
رفض مكارثي طلب زيلينسكي بإلقاء كلمة أمام الكونجرس وبدا أنه يثير تساؤلات حول مستقبل دعم أوكرانيا، ويبدو أن مكارثي كان يعبّر بشكل فعّال عن موقف بعض المتشككين في حزبه الذين ينظرون بتشكيك في دعمهم لأوكرانيا في سياق معركة الميزانية، وهذا يعكس الوضع السياسي المعقد حيث يوجد مجموعة صغيرة من المشرعين الذين يمتلكون تأثيرًا كبيرًا في السياسة الخارجية وتتقاطع مصلحتهم مع توجيهات حزبيهم الجمهوري والديمقراطي بشأن قضايا مالية وعدمية مؤسسية.
وفي حدث غير اعتيادي لوحدة المجلس الشيوخ الأمريكي، تم استضافة السيناتورين تشاك شومر وميتش ماكونيل، زعيمي الأغلبية والأقلية على التوالي، وأكد ماكونيل في بيانه أن “دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا ليس تصرفًا خيريًا بل استثمارًا في مصالحنا المباشرة، ويعتمد ذلك على أسباب منها تراجع القوة العسكرية الروسية التي تلعب دورًا في ردع منافسنا الاستراتيجي الرئيسي، الصين.”
ومع ذلك، يتصادم موقف ماكونيل المسيطر بشكل متزايد مع مواقف بعض المشرعين في الجناح اليميني من الحزب الجمهوري، الذين يتجهون نحو المزيد من المواقف الانعزالية أو صديقة لروسيا.
هؤلاء المشرعون يجدون دعمًا من مجموعة من المانحين الصغار الذين يتبرعون بمبالغ مالية صغيرة ويؤمنون بآرائهم المثيرة المناهضة للمؤسسات أو يعتقدون ببساطة أن دعم الرئيس الأمريكي جو بايدن لأوكرانيا لا يبررونه.
إننا نفكر بشكل عام في تمويل الحملات الانتخابية والمواجهات المتعلقة بالميزانية باعتبارها قضايا داخلية، لكن الحوافز والسلوكيات الضارة في السياسة الأمريكية لا تؤدي إلى تآكل الشرعية الديمقراطية فحسب، بل إنها تضعف عمل الحكومة بطرق تضعف مكانة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي.
وبينما تسعى الولايات المتحدة إلى الإبحار في عالم أكثر تعقيدًا وخطورة، حيث تمثل القوى الاستبدادية خطرًا واضحًا وقائمًت على أمن ورخاء الأميركيين على المدى الطويل، فمن المهم أكثر من أي وقت مضى أن تعمل الولايات المتحدة كمشروع مشترك سواء كان الأمر يتعلق بضبط ميزانية الدفاع الأمريكية لتواكب التحولات في الوضع الجيوسياسي والتكنولوجي الجديد، أو التعامل مع تغيرات المناخ، أو تأمين سلاسل التوريد الحيوية التي تؤثر في الاقتصاد والعمل في الولايات المتحدة.
ويجب على واشنطن أن تتبنى نهجًا متماسكًا ومتوازنًا خاليًا من تدخل المصالح الخاصة، ويتضمن هذه الدعم من جهات مانحة صغيرة في الكونغرس الأمريكي.
رغم أن الولايات المتحدة تظل أقوى دولة على وجه الأرض، إلا أن هذه القوة لا تعفيها من مراجعة استراتيجيتها في عالم معقد ومحوري، حيث يتعين على القادة الأمريكيين أن يدركوا أن بلادهم أصبحت قوة عالمية أصغر حجمًا مما كانت عليه. وتكون الأخطاء غير القسرية هي التي تجعلها أقل قوةً وتأثيرًا.