جنوب سوريا على المحك: تحليل شامل لتطورات السويداء والتدخلات الإقليمية

تشهد محافظة السويداء، جنوب سوريا، تصعيدًا عسكريًا وأمنيًا معقدًا وغير مسبوق، تحولت معه المنطقة إلى ساحة صراع إقليمي مفتوح. تضمنت التطورات الأخيرة ضربات جوية إسرائيلية متقدمة، واشتباكات مسلحة داخلية عنيفة، وتحولات سياسية ميدانية قلبت موازين القوى الأمنية. يعرض هذا التقرير التفصيلي الوقائع المستجدة، مدعومًا بالمعلومات الواردة من المصادر الميدانية الموثوقة.
السويداء على صفيح ساخن
شهدت السويداء تصعيدًا واسعًا بدأ باشتباكات دموية بين فصائل درزية محلية ومجموعات عشائرية في أحياء المقوس والحروب وبلدتي المزرعة وكناكر، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى، بينهم مدنيون. ردت الحكومة السورية بتعزيزات من القوات الخاصة، تزامناً مع تدخل إسرائيلي مباشر وغير مسبوق. شمل هذا التدخل غارات جوية دقيقة استهدفت أرتالًا من الدبابات والمدرعات السورية المتجهة إلى السويداء، باستخدام طائرات “درون كاميكازي” وأنظمة صواريخ متطورة مثل HAROP وSPIKE-NLOS وLAHAT، بهدف عرقلة تقدم القوات السورية.
بالتوازي مع الغارات، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي حملة اغتيالات استهدفت قيادات عسكرية سورية، وصرّح مسؤولون إسرائيليون بضرورة تصفية الرئيس السوري فورًا. وتشير التقديرات إلى أن عدد قتلى الجيش والأمن السوري بلغ 200 شهيد منذ اندلاع الأحداث.
وفي تطور مفاجئ، أدى اتفاق مبدئي على سحب السلاح الثقيل وتحويل السيطرة للأمن السوري إلى انقلاب في المشهد. فقد تبين لاحقًا أن هذا الاتفاق كان بمثابة “فخ” مكّن الميليشيات الدرزية من السيطرة على مركز المدينة ومحاصرة قوات الأمن في مواقع استراتيجية، بما في ذلك مستشفى السويداء العام.
ومع تقدم الميليشيات، انسحب الجيش السوري مؤقتًا إلى أطراف المدينة، قبل أن يعاود شن هجوم واسع على ثلاثة محاور لاستعادة السيطرة. تزامن هذا التصعيد مع تحركات إقليمية معقدة، شملت ضغوطًا دبلوماسية إسرائيلية على تركيا عبر وساطة أذربيجانية، واحتجاجات للدروز داخل الكيان الإسرائيلي، إضافة إلى انسحاب قوات أمريكية من قواعد في شمال شرق سوريا. هذه التطورات مجتمعة زادت المشهد تعقيدًا، وأثارت تساؤلات جديّة حول مستقبل الجنوب السوري واحتمالات تحوله إلى ساحة صراع مفتوح.
تسلسل الأحداث الرئيسية
- تطورات مساء 14 يوليو: بداية التصعيد
بدأ التصعيد مساء الأحد الموافق 14 يوليو، باشتباكات مسلحة عنيفة في أحياء المقوس والحروب الجنوبية والغربية من السويداء، وامتدت إلى بلدتي المزرعة وكناكر في ريف المحافظة. شاركت في هذه المواجهات فصائل درزية محلية مسلحة ومجموعات عشائرية بدوية، واستخدمت الأسلحة المتوسطة وقذائف الآر بي جي، ما تسبب في دمار واسع للممتلكات.
أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى حصيلة أولية بلغت 37 قتيلاً وأكثر من 50 مصاباً حتى صباح اليوم التالي، مع مؤشرات قوية على ارتفاع الأرقام في ظل تدهور الأوضاع الميدانية. رداً على ذلك، أعلنت وزارة الداخلية السورية عن إرسال تعزيزات عسكرية عاجلة من “الفرقة 52″ (قوات خاصة) و”لواء علي بن أبي طالب” إلى أطراف المدينة لاحتواء التوتر. بالتزامن، أفادت وكالة سانا الرسمية بشن ثلاث غارات جوية إسرائيلية استهدفت مواقع عسكرية سورية في المزرعة وكناكر فجر 15 يوليو، إضافة إلى دبابات سورية كانت تتحرك بين منطقتي “سجين والسميع” بذريعة تجاوزها “خطًا فاصلًا”. ورغم نفي جيش الاحتلال الإسرائيلي لبعض هذه التقارير، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” بأن الغارات تهدف لحماية الدروز في المنطقة. - صباح 15 يوليو: هدوء حذر وتدخل أمني
ساد هدوء حذر في بعض المناطق صباح اليوم التالي بفضل وساطات من لجان عشائرية وشخصيات دينية. ومع ذلك، استمرت الاشتباكات حول المستشفى الوطني الذي أصبح نقطة تماس رئيسية. وفي تطور لافت، دخلت قوات من الجيش السوري والأمن الداخلي إلى مركز المدينة، وأعلن العميد “أحمد الدالاتي”، قائد الأمن الداخلي، فرض حظر تجوال شامل بدءًا من الساعة الثامنة صباحًا، داعيًا المدنيين للبقاء في منازلهم.
رفض حكمت الهجري الاتفاق ودعا لمواصلة القتال. في نفس الوقت تقريبًا، استأنفت جيش الاحتلال الإسرائيلي ضرباته. و تعرّضت القوات الحكومية لكمائن في تسعة مواقع متزامنة داخل السويداء.
أدى انهيار وقف إطلاق النار في 15 تموز إلى تصاعد العنف في السويداء، وبدأت وساطة أميركية مع الكيان الإسرائيلي ودمشق، لكن رغم طلب وقف الضربات، استمر جيش الاحتلال الإسرائيلي في قصفه دون تغيير. رغم وجود مسلحين دروز آخرين، فإن النواة الأساسية للميليشيات الدرزية الخارجة عن القانون تمثلت بـ”مجلس السويداء العسكري” التابع لحكمت الهجري، والذي تأسس بعد 24 ساعة من سقوط الأسد ويضم ثلاثة من جنرالات النظام السابق بحسب ما نشر الباحث تشارلز ليستر على حسابه في منصة إكس.
لاحقاً، اندلعت مواجهات عنيفة بين قوات الأمن ومجموعات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة حول المستشفى الوطني، في وقت قطع فيه الجيش السوري طرق الإمداد العسكرية القادمة من قرية “رساس” جنوباً، في محاولة لعزل الميليشيات داخل المدينة. - الظهيرة وما بعد الظهر: تصاعد التدخل الإسرائيلي
كشفت تقارير إسرائيلية عن تحرك دبلوماسي سريع من تل أبيب عبر أذربيجان، لنقل رسالة عاجلة إلى تركيا تطالبها بمنع دعم الجيش السوري أو التدخل عسكريًا في الجنوب، مهددة بتصعيد واسع إذا لم يتم الانسحاب من نقاط محددة. وبالفعل، سحب الجيش السوري بعض عتاده وجنوده من المواقع التي تعرضت للغارات.
صرح رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي “بنيامين نتن ياهو” من غور الأردن بأن بلاده لن تسمح بتحويل الجنوب السوري إلى “جنوب لبنان جديد”، مشدداً على ضرورة بقاء المناطق الجنوبية منزوعة السلاح. في الوقت ذاته، نُفذت غارة جديدة استهدفت دبابة تابعة للجيش داخل مدينة السويداء. وبينما كان الشيخ الهجري يتراجع عن إعلان استسلامه، دعا مجددًا إلى القتال ضد الحكومة، واصفًا ما تتعرض له المدينة بأنه “حرب إبادة شاملة”. في المقابل، أعلنت وزارة الدفاع السورية وقفًا لإطلاق النار بعد اتفاق مع وجهاء المدينة، مع منح القوات الحق في الرد على أي مصدر للنيران. - مساء (حتى 22:00): غارات مكثفة وتقدم الميليشيات
تصاعدت وتيرة الغارات الإسرائيلية بشكل غير مسبوق رغم إعلان وقف إطلاق النار. أفادت كل من القناة 12 والقناة 14 الإسرائيليتين، إلى جانب رويترز، أن الحكومة الإسرائيلية أمرت بشن ضربات مباشرة على مواقع للجيش السوري ومخازن أسلحة داخل السويداء، معتبرة أن إرسال قوات إضافية وأسلحة ثقيلة يعد خرقًا لمبدأ نزع السلاح. استهدفت الغارات دبابات وناقلات جند وراجمات صواريخ، بالإضافة إلى الطرقات المؤدية إلى المدينة ومواقع عسكرية في بلدة “إزرع” بريف درعا.
أفاد جيش الاحتلال الإسرائيلي بأن عملياته تهدف إلى عرقلة تقدم القوات السورية إلى قلب السويداء، مشيرًا إلى تنسيق ميداني مباشر مع ميليشيات درزية محلية. تزامنت الغارات مع إطلاق نيران من المضادات الجوية السورية نحو الطائرات الإسرائيلية، فيما استهدفت إحدى الغارات مجمع المستشفى الوطني تزامنًا مع هجوم معاكس للميليشيات الدرزية.
لاحقًا، تمكّنت هذه الميليشيات من السيطرة على عدة أحياء في وسط المدينة، بما في ذلك مبنى المحافظة والمناطق المحيطة بالمستشفى الوطني. قُتل وأصيب العشرات من عناصر الجيش والأمن، وسط تقارير عن مقتل 200 عنصرًا منذ بدء المعارك.
مع هذا التقدّم، أعلن قائد الأمن الداخلي إعادة انتشار الجيش خارج المدينة، بينما أكدت رئاسة الجمهورية أن الحكومة ستلاحق أي عناصر قامت بتجاوزات قانونية. في الوقت ذاته، بدأت القوات السورية هجومًا بريًا على ثلاثة محاور داخل المدينة لاستعادة السيطرة وطرد الميليشيات المسلحة.
السويداء.. محور صراع إقليمي
يُظهر التصعيد الأخير في السويداء بوضوح أن المحافظة قد تحولت إلى نقطة اشتباك إقليمي، متجاوزة كونها مجرد ساحة توتر داخلي. إن الدخول الإسرائيلي المباشر – عسكريًا ودبلوماسيًا – يكشف عن استراتيجية جديدة لتوسيع النفوذ الأمني الإسرائيلي في الجنوب السوري، بما يتجاوز حدود الجولان. من جهة أخرى، فإن استسلام الهجري ثم تراجعه عنه يعكس الانقسام الداخلي داخل الميليشيات الدرزية، وغياب قيادة موحدة قادرة على التفاوض أو الحسم.
التراجع المؤقت للجيش السوري ثم عودته بهجوم واسع يضع مستقبل المدينة أمام احتمالين حاسمين: إما سيطرة الدولة بشكل أمني مشدد، أو دخولها في حالة شبه انفصال بحكم الواقع، كما حدث سابقًا في درعا. التدخلات الإسرائيلية، واحتجاجات الدروز في الداخل الإسرائيلي، والتحركات الأمريكية والكردية، كلها تشير إلى تحوّل جنوب سوريا إلى مسرح صراع نفوذ بين قوى إقليمية ودولية.
لذا، يتعين على الدولة السورية أن تتحرك سياسيًا، وليس فقط عسكريًا، لاستيعاب مطالب الفصائل الدرزية المعتدلة، واستعادة التماسك الوطني. كما أن على المجتمع الدولي – خاصة تركيا والسعودية – التدخل بشكل عاجل لمنع توسع الاشتباكات وتحولها إلى صراع إقليمي مفتوح.
توصيات استراتيجية: نحو احتواء الأزمة
• فتح قنوات حوار داخلي مع الفصائل الدرزية المعتدلة: بدلاً من الاقتصار على الحلول الأمنية، يجب العمل على آلية تفاوض سياسي مباشر مع وجهاء المدينة والشخصيات الاعتبارية لضمان تهدئة دائمة.
• تجنب التصعيد الميداني غير المحسوب: أي هجوم بري واسع النطاق دون تفاهمات داخلية أو ضمانات إقليمية قد يؤدي إلى استنزاف عسكري وتكرار سيناريو درعا.
• ضبط عناصر الأمن والجيش داخل المدينة: توجيه رسمي لمنع التجاوزات والانتهاكات بحق المدنيين، وتوثيق أي مخالفات بشكل قانوني، سيعزز ثقة الأهالي بالدولة.
• عزل المجرمين عن القضية العامة: يجب التركيز على ملاحقة العصابات الخارجة عن القانون دون وصم الحراك الدرزي ككل، لتفكيك أي تحالف بين المدنيين والمسلحين.
• التحذير من سيناريو “جنوب لبنان”: السماح لإسرائيل بفرض واقع أمني في الجنوب السوري سيخلق بيئة مشابهة لاحتلال الجنوب اللبناني قبل عام 2000، ويشجع نشوء تنظيمات مقاومة لاحقًا، مما سيزيد من تعقيد المشهد الأمني في المنطقة.
المصدر: بوليتكال كيز