الجزائر ومخاوفها من التقارب المغربي الموريتاني

تشهد المنطقة المغاربية حراكًا دبلوماسيًا محمومًا، تقوده الجزائر بوتيرة متسارعة باتجاه موريتانيا. هذا التحرك الجزائري يأتي في محاولة حثيثة لاحتواء التقدم الدبلوماسي المغربي المتنامي في نواكشوط، والذي بات يثير قلقًا متزايدًا في قصر المرادية (الرئاسة الجزائرية). فالمملكة المغربية تواصل تعزيز حضورها الاستراتيجي في المنطقة، عبر شراكات عابرة للحدود ومشاريع تنموية ذات أبعاد قارية، خاصة في مجالات الطاقة، اللوجستيات، والأمن.
الدبلوماسية البرلمانية: واجهة التنافس
في خضم التحولات الإقليمية المتسارعة والتحديات التي تواجه المنطقة المغاربية والعالم العربي عمومًا، بدأت زيارة رئيس المجلس الشعبي الوطني الجزائري، إبراهيم بوغالي، إلى نواكشوط، لتفتح فصلًا جديدًا في العلاقات البرلمانية الموريتانية الجزائرية. تندرج هذه الزيارة في إطار “تعزيز التعاون البرلماني بين الجزائر وموريتانيا وتجسيد متانة العلاقات الإستراتيجية التي تجمع البلدين الشقيقين”، وتأتي في سياق تعزيز الدبلوماسية البرلمانية وتكريس العمل المشترك في القضايا ذات الأولوية المشتركة، لاسيما التحديات السياسية، الاقتصادية، والأمنية التي تواجه منطقة المغرب العربي.
تأتي هذه الزيارة أيضًا في وقت تشهد فيه العلاقات الموريتانية الجزائرية تطورًا لافتًا على مختلف المستويات، خاصة بعد فتح معبر حدودي بري، وتوسيع آفاق التعاون في مجالات التعليم، التجارة، الطاقة، والنقل. وهو ما يمنح البُعد البرلماني أهمية خاصة في ضمان استدامة هذا التقارب وتجذير أسسه القانونية والمؤسسية. يرى مراقبون أن هذا التقارب التشريعي بين نواكشوط والجزائر قد يشكل أرضية لتفعيل مشاريع إقليمية أوسع، تعزز من دور المؤسسات المنتخبة في توجيه السياسات العامة، والدفاع عن المصالح المشتركة لشعوب المغرب العربي.
تنافس صامت: المغرب يؤسس لشراكة استراتيجية في موريتانيا
أدرج مراقبون زيارة رئيس المجلس الشعبي الوطني الجزائري إلى نواكشوط في سياق حراك تنافسي دبلوماسي متصاعد بين الجزائر والمغرب لتعزيز الحضور والتأثير في موريتانيا، التي تمثل عنصر توازن مهم في معادلات المغرب العربي والساحل.
في فبراير 2024، أدى رئيس مجلس النواب المغربي، رشيد الطالبي العلمي، زيارة رسمية إلى نواكشوط، أعلن خلالها عن إطلاق منتدى برلماني سنوي مشترك بين المجلس المغربي والجمعية الوطنية الموريتانية، يهدف إلى ترقية العلاقات الثنائية وتقييم مسار التعاون بشكل دوري. ومن تجليات هذا الحراك ما شهدته العاصمة نواكشوط في سبتمبر الماضي من انعقاد للدورة الأولى للمنتدى البرلماني الاقتصادي الموريتاني المغربي، برئاسة مشتركة بين رئيس مجلس النواب المغربي ورئيس الجمعية الوطنية الموريتانية، وبحضور واسع لمسؤولين حكوميين من القطاعات الإنتاجية في البلدين، إلى جانب فاعلين في القطاع الخاص وخبراء وممثلين عن المجتمع المدني.
تكشف هذه التحركات المتسارعة عن تنافس صامت لكنه فعّال بين الجزائر والمغرب على كسب العمق الاستراتيجي الموريتاني، في وقت تحاول فيه نواكشوط المحافظة على توازن دقيق في علاقاتها مع الجارين الكبيرين، مستفيدة من موقعها الجيوسياسي كحلقة وصل بين شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
القلق الجزائري: “تقدم مغربي غير مريح” في المجال الحيوي
لا يبدو توقيت زيارة بوغالي بريئًا في نظر العديد من المراقبين، خاصة وأنها تأتي مباشرة بعد سلسلة خطوات متسارعة في مسار التقارب المغربي–الموريتاني، كان أبرزها تبادل الزيارات بين وفود برلمانية رفيعة، واللقاء الذي جمع مؤخرًا مسؤولين موريتانيين بنظرائهم المغاربة في نواكشوط.
يُقرأ في هذا الحراك الجزائري محاولة لاستباق ما تعتبره الجزائر “تقدمًا مغربيًا غير مريح” في الفضاء الموريتاني، الذي لطالما صنّفته ضمن مجالها الحيوي في الجنوب الغربي. فزيارة بوغالي تحمل، بحسب بعض التحليلات، أبعادًا تتجاوز البروتوكول البرلماني إلى رسائل واضحة موجهة نحو الرباط، وربما أيضًا نحو نواكشوط نفسها. وبينما تؤكد الجزائر على تمسكها بـ”علاقات الأخوة والجوار”، فإنها تُدرك جيدًا أن الميدان الدبلوماسي في المنطقة لا يحتمل الفراغ، وأن الحضور المغربي في موريتانيا، خاصة في الشق الاقتصادي والبرلماني، بات يستدعي من صانع القرار الجزائري تحركًا بحسابات دقيقة. يرى بعض المحللين أن الجزائر تسعى من خلال زيارات مسؤوليها إلى نواكشوط إلى إعطاء انطباع بأنها لا تعيش عزلة، وإيجاد حلول لتراجع حضورها الإقليمي والدولي.
الموقف الموريتاني: حياد إيجابي ومكاسب استراتيجية
رغم أن نواكشوط تحرص على الحفاظ على حيادها الإيجابي إزاء قضية الصحراء، إلا أن التقارب مع المملكة المغربية قد يُفسر على أنه انفتاح أكبر على المبادرات المغربية، وخاصة مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية تحت سيادة المغرب. أي تحول في الموقف الموريتاني، حتى لو كان طفيفًا، سيكون ذا أهمية استراتيجية للرباط.
ترى الجزائر في موريتانيا امتداداً لنفوذها الجيوسياسي في منطقة الساحل، وتعتبر التقارب المغربي الموريتاني بمثابة تقليص لحضورها في المنطقة، ويشكل تحديًا لاستراتيجيتها الإقليمية. حيث تُعد موريتانيا المنفذ الأقرب والأكثر حيوية للجزائر للوصول إلى المحيط الأطلسي وأسواق غرب إفريقيا، في وقت تواجه فيه البلاد عزلة في جوارها ومحيطها الأفريقي بعد تصدع علاقاتها مع عدة دول من بينها تحالف الساحل الذي يضم مالي، النيجر، وبوركينا فاسو. يدرك الجانب الجزائري أن دعم نواكشوط المحتمل للمبادرة المغربية للحكم الذاتي سيمثل ضربة لمساعيها الرامية لإطالة أمد النزاع المفتعل حول الصحراء، خاصة في ظل الانتصارات الدبلوماسية التي حققتها الرباط في القضية التي تقيس على أساسها علاقاتها مع الدول وفق مقاربة أرسى دعائمها العاهل المغربي الملك محمد السادس. وتشير بعض التحليلات إلى أن المبادرات الجزائرية تجاه موريتانيا قد تكون “تكتيكية” وغير ذات عمق استراتيجي في بعض الأحيان، بينما ينظر الموريتانيون للمغرب كشريك دولي موثوق في مواجهة الرهانات الاقتصادية والأمنية.
نحو شراكة بناءة أم استمرار للتنافس؟
تُبرز التحركات الجزائرية الأخيرة تجاه موريتانيا حجم القلق المتزايد في قصر المرادية إزاء التقارب المغربي–الموريتاني، الذي يشق طريقه بثبات على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ويمتد إلى مجالات التعاون البرلماني والتنمية المشتركة. وبينما تسعى الجزائر إلى إعادة تموضعها الإقليمي من خلال زيارات ومبادرات دبلوماسية متسارعة، تبدو هذه التحركات أشبه بمحاولات لاحتواء تقدم مغربي مدروس، يعكس رؤية استراتيجية بعيدة المدى.
تبقى نواكشوط، بحكم موقعها الجغرافي ودورها التوازني، فاعلًا محوريًا في المعادلة المغاربية–الساحلية، في وقت تحاول فيه الحفاظ على حيادها الإيجابي دون التفريط في فرص الشراكة. ومن هنا، فإن مستقبل الاصطفافات الإقليمية سيتوقف بدرجة كبيرة على قدرة الجزائر والمغرب على تجاوز منطق التنافس الصراعي إلى فضاء التعاون البناء، بما يخدم الاستقرار والتكامل في المنطقة المغاربية.
المصدر: بوليتيكال كيز