هل حققت “المقاومة الفلسطينية” أهدافها في “طوفان الأقصى”… وهل هُزمت إسرائيل حقًا؟
يقول”تسون زو” في كتابه “فن الحرب”: “الخبير بالقتال يحرك عدوَّه، ولا يسمح للعدو أن يحركه… المحاربون المنتصرون يكسبون في البداية، ثم يذهبون إلى الحرب. أما المحاربون المنهزمون، فيذهبون إلى الحرب في البداية، ثم يسعون إلى الانتصار”.
جاءت معركة “طوفان الأقصى” التي أطلقتها فصائل “المقاومة الفلسطينية” في قطاع غزة، كمحاولة لكسب الانتصار منذ البداية ثم التجهز لخوض حرب مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بعد سنوات من القصف الصهيوني المستمر بشكل شبه يومي على مقرات “حماس” و”الفصائل الفلسطينية” الأخرى في غزة، وحملات الاعتقال المتكررة في مناطق الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، والاقتحام المتكرر من قبل الصهاينة للمسجد الأقصى وتدنيسه وإيذاء أهله و المعتصمين فيه، واعتقال الكثير من رواده والمصلين فيه، فضلًا عن الزيادة الفاحشة في بناء المستوطنات في مناطق واسعة من فلسطين، وهذا مايجعل إطلاق العملية العسكرية الأخيرة تأتي كرد فعل طبيعي على تلك التجاوزات التي أقرت بها معظم دول العالم.
هل أخطأت “المقاومة الفلسطينية” في اختيار الوقت المناسب لإطلاق “طوفان الأقصى”؟
هذا السؤال تكرر كثيرًا بعد إطلاق العملية العسكرية الأخيرة… فمن قائل بأن الوقت والمعطيات والظروف الدولية غير ملائمة لفتح حرب مفتوحة ضد إسرائيل وهي في قوتها الحالية ويدعمها حلفاء أقوياء يمدونها بالمال والسلاح والعتاد، وعلاقتها التي تبنيها مع زعماء المنطقة العربية وقطار التطبيع الذي سارت به حتى كادت تصل لنهايته، ومن قائل بأنّ توقيت العملية جاء في الزمان والمكان المناسبَين، فإسرائيل التي تعاني من اضطرابات داخلية بين قادتها واختلافهم الكبير فيما بينهم بما يتعلق بتسيير شؤون الدولة، وقضية الأحكام القضائية والتعديلات عليها، والمظاهرات العارمة التي شهدتها إسرائيل والتي لم تشهد لها مثيلًا من قبل، إضافة لانشغال حلفائها بحرب أوكرانيا وتهديدات الصين باحتلال تايوان والمعركة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة باختيار رئيسها القادم، وبين رغبة المقاومة بعرقلة قطار التطبيع مع باقي الدول وعلى رأسها السعودية، والتي ربّما كان لتطبيعها – لو تم – بالغ الأثر في عمق القضية الفلسطينية وتغيبها عن المشهد القادم.
وبعد استعراض الرأيين والذي أميل للثاني منهما، يبدو أنه لا يمكن على وجه اليقين أن نجزم بصحة اختيار الوقت المناسب لإطلاق المعركة من عدمه، وهذا ما يمكن أن تجيب عنه “المقاومة الفلسطينية” لأنها صاحبة الأرض وهي التي يمكن لها أن تقدر الزمان والمكان ونوعية وحجم المعركة التي ستخوضها وأهدافها…إلخ، وأيضًا ماصرحت به بعض الشخصيات من “المقاومة” بأنها استطاعت الوصول إلى معلومات سرية تكشف عن استعداد العدو لشن هجمة شرسة ضد قطاع غزة في الفترة القادمة.
بعد حوالي 20 يومًا على معركة “طوفان الأقصى” هل انتصرت “المقاومة الفلسطينية” في المرحلة الأولى إن صح التعبير؟
سياسيًا، استطاعت المقاومة الفلسطينية بعد “طوفان الأقصى” أن تعيد توجيه البوصلة نحو القضية الفلسطينية من جديد بعد أن كادت إسرائيل تدق المسامير الأخيرة في نعشها، بعد عمليات التطبيع الواسعة التي أجرتها في المنطقة. وكذلك استطاعت أن تكسب تأييدًا عربيًا وإقليميًا (ولو بشكل خجول) بمشروعية حقها في الدفاع عن النفس ضد ممارسات الاحتلال. فضلًا عن كشف ازدواجية المعايير التي مارستها الدول الغربية في التعاطي مع الملف الفلسطيني والانحياز التام (من الدول التي تدعي الديمقراطية واحترام القانون الدولي) للاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي خلق نوعًا من الرأي العام ولو بشكل نسبي ضد تلك التجاوزات وذلك الانحياز، وخصوصًا بعد أحداث قصف الاحتلال للمشفى الأهلي “المعمداني” والذي راح ضحيته حوالي 500 شهيد ومئات الجرحى، وهي من المرات القليلة التي تستهدف فيها إسرائيل مشفى في فلسطين منذ احتلالها لفلسطين قبل عشرات السنين، وهو ما كشف العور في قواعد الحرب التي يتبعها الاحتلال والتي كانت فقط حبرًا على ورق، محي عند أول ضربة موجعة تلقتها قواته على أيدي “المقاومة الفلسطينية”.
عسكريًا، يمكن البدء بالحديث عن التطورات العسكرية الأخيرة ثم العودة للنتائج الأولى لمعركة “طوفان الأقصى”، فقد صرحت صحيفة يديعوت أحرونوت، أنّ هناك أزمة ثقة بين نتنياهو وقيادة الجيش وعلاقات متوترة بينه وبين غالانت تعرقل العمل المشترك و أيضًا خلافات بينه وبين كبار المسؤولين في الجيش بشأن التقييمات والخطط والقرارات الخاصة بالعملية البرية، كما أكد المتحدث باسم جيش الاحتلال بأنّ العملية البرية ستؤجل بانتظار الدعم الأمريكي الإضافي، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على تخبط واضح في التعاطي الإسرائيلي مع خوض معركة برية ضد “المقاومة الفلسطينية”، وصعوبة في اتخاذ ذلك القرار بعد المفاجأة الكبرى التي تلقتها إسرائيل في “طوفان الأقصى”، وخوفها من أن تكون “المقاومة” قد أعدت خطة دفاعية تكون بمثابة مقبرة لقواتها على حدود غزة وذلك بالتزامن مع التصريحات المتكررة للمتحدث العسكري باسم كتائب القسام، بأنهم “مستعدون للغزو البري الإسرائيلي وأنهم ينتظرونه في الميدان لهزيمته شر هزيمة”… ومع تأخر الاحتلال بإعلان شن العملية البرية ضد “غزة” والتي صرح منذ اليوم الثاني من “طوفان الأقصى” بأنها قادمة لا محالة يبدو أنه بدأ يقلّب الأمور أكثر ويقيس خيارات بديلة لذلك ومن المعلوم أنّ التأخر في رد الفعل الذي يكون ممزوجًا بغضب شعبي ورغبة في الانتقام يذهب أثره شيئًا فشيئًا مع مرور الزمن، ولاتزال نسبة المعارضين لشن عملية عسكرية ضد “غزة” ترتفع يومًا بعد يوم من قبل الشعب الإسرائيلي، وسط تحميله المسؤولية الأكبر لنتنياهو في كل ما حصل ويحصل مع اليهود.
وبالعودة إلى نتائج معركة “طوفان الأقصى”، والتي استطاع مقاتلوها تحقيق خرق كبير في الدفاعات الإسرائيلية ضمن غلاف غزة ووصولهم لعمق يتجاوز 40 كيلو مترًا في الأراضي التي تحتلها إسرائيل وتمكنهم من أسر المئات من الضباط والجنود و المستوطنين وسحبهم نحو مناطق سيطرتهم والبقاء عدة أيام ضمن المستوطنات الإسرائيلية ومجابهة اليهود في الأراضي المحتلة فهذا في العرف العسكري يعتبر نصرًا عسكريًا واستراتيجيًا مذهلًا ضد دولة بذلت مليارات الدولارات لصنع سياج إسمنتي على طول القطاع وحفرت في الأرض عشرات الأمتار لمنع التسلل من جوف الأرض، ووضعت مئات الأجهزة والرادارات وأنظمة التجسس على حدودها فضلًا عن جهازها الاستخباراتي الذي تتفاخر به منذ سنوات والذي لم يستطع كشف تلك العملية… وبعد 17 يومًا على معركة “طوفان الأقصى” وسقوط آلاف القتلى من الجانب الإسرائيلي وبقاء “المقاومة” محافظة على الأسرى لديها مع فرق الإمكانات الهائلة بين الطرفين والدعم الخارجي الذي تتلقاه إسرائيل من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، يمكن القول حتى الآن إن “المقاومة” هي المنتصرة في هذه الجولة الأولى إن صح تسميتها هكذا، ولا يستقيم بحال أن نعتبر مايقوم به الاحتلال من قصف لمنازل المدنيين والأبرياء من الأطفال والنساء وتعمده أن يقتل ما استطاع من الفلسطينين هو انتصار له أو سيسجل في سجلاته كفوز، بل هو يعبر عن تخبط واضح في التعاطي مع الحرب الأخيرة وسياسة “فاشية” يتبعها العدو المهزوم بضرب المدنيين والعزل واستهداف المشافي التي فيها المرضى والمصابين لتبرير فشله أمام مناصريه، ولو فرضنا جدلًا أن “المقاومة الفلسطينية” اتبعت نفس أسلوب الاحتلال بقصف المشافي واستهداف المدنيين لسقط منهم الآلاف ولكنّ هذا لم يحدث.
هل إيران هي من اختارت توقيت المعركة وأوعزت بذلك لـ”لمقاومة الفلسطينية”؟
لاتخفي حركة “حماس” وهي القوة الأكبر في قطاع غزة تحالفها العلني مع إيران وهذا ما أعلنت عنه في أكثر من مناسبة، واعتبرتها من محور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وأنها تقدم الدعم المادي والعسكري لهم، فهذا الأمر يجعل في وجهة نظر البعض أنّ إيران – وفي ظل التضييق الأخير عليها من قبل الولايات المتحدة في ملفات عدة وعلى رأسها الملف النووي وعن وجود نية أمريكية بشن عملية عسكرية على الحدود العراقية – السورية لقطع الخط البري على إيران باتجاه سوريا وأسباب أخرى – هي من طلبت من “المقاومة” التحرك السريع في هذه المعركة، ويرى البعض الآخر أنّ “المقاومة الفلسطينية”، وإن كانت تعتبر إيران كحليف لها في “محور المقاومة” فإنها لا تسمح له بالتحكم في قراراتها الداخلية وموعد اختيارها لعملياتها ضد الاحتلال وأنّ التحالف بينهما لايعدو كونه تحالفًا وفق مصالح مشتركة بين الطرفين، خصوصًا أنّنا لايوجد أي مظهر من مظاهر سيطرة إيران على الشارع الفلسطيني ولا وجود مراكز لإيران في القطاع ولا حسينيات شيعية (ربما وجد القليل منها للسكان الشيعة الأصليين في غزة) كما هو الحال في باقي الدول التي تسيطر عليها إيران وتعتبر حليفًا لها كسوريا لبنان واليمن، إضافة لتصريح “المقاومة الفلسطينية” في أكثر من مرة بأن بوصلتها تحرير فلسطين من اليهود وأنها ستقبل الدعم السياسي والعسكري من أي بلد في سبيل تحقيق غايتها دون أن يكون لهم الحق في أخذ القرار عنهم، وهذا ماصرّح به قادة “حماس” في أكثر من مناسبة وهذا ما يمكن أن يرى في الظاهر.
لكن يمكن القول إنّ معركة كـ”طوفان الأقصى”، وما أثمرت عنه من نتائج على الصعيد العسكري بوجود عنصر المباغتة والإنزال المظلي ومختلف التكتيات العسكرية المتبعة لا يمكن أن يكون عمل الساعة وإنما احتاج تدربًا وإعدادًا لأشهر عديدة ودراسة عميقة لإمكانيات العدو ونقاط ضعفه وقوته وجمع البيانات عن مستوطناته ومقراته وأماكن تموضعها والمعدات الموجودة داخلها، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون كرد فعل على تهديد لحليف فقط، وإنما يمكن أن يكون الزمان والمكان ساعد الحليفين في إطلاق تلك المعركة، وإن كانت تلك المعركة لا تصب في مصلحة إيران التي لم تواجه إسرائيل يومًا إلا خلف الشاشات وعبر الخطابات الرنانة فقط. فانخراط إيران في الحرب بشكل مباشر باعتبارها حليفًا لـ”محور المقاومة”، يجعلها في مرمى نيران الولايات المتحدة وحلفائها الذين أمدوا إسرائيل بكل ما تحتاج وجلبوا حاملات الطائرات لردع أي محاولة خارجية لتوسيع رقعة الصراع، وإما أن تترك إيران “حلفاءها” وحدهم في ساحة القتال وتسقط معها روايتها التي استعطفت بها الناس خلال السنوات الماضية بزعم نصرتها للأقصى وفلسطين وقضايا المسلمين.
خلاصة القول، إنّ معركة “طوفان الأقصى” استطاعت أن تأخذ الصراع نحو ساحة جديدة مختلفة عن القديمة وأنّ ما سينتج عن تلك المعركة سيغير بشكل أو بآخر شكل المرحلة القادمة فمع إصرار إسرائيل على خوض المعركة البرية (والذي بدأ يتراجع زخمها) ومع إعلان “المقاومة الفلسطينية” عزمها الدفاع عن أرضها ضد المحتل الإسرائيلي، كل ذلك يشير إلى واقع جديد سيرسم للمنطقة ستظهر علاماته خلال الأيام القليلة المقبلة.