
تعيش السياسة الخارجية الليبية حالة من الفوضى المزمنة التي تمتد من مكاتب طرابلس إلى بعثاتها الدبلوماسية المنتشرة حول العالم، في مشهد يكشف عن جهاز إداري متهالك، تتنازعه الولاءات والانقسامات السياسية، وتغذيه قرارات مرتجلة وسلوكيات تتسم بعدم الكفاءة أو الانضباط.
الدبلوماسية الليبية باتت اليوم واجهة متصدعة لنظام هش، تسوده التعيينات المؤقتة، والمناصب الشاغرة، والتحقيقات الجنائية، وتنازع الصلاحيات بين اللاعبين الرئيسيين في المشهد الليبي.
في مرسيليا، تولى محمد حمودة، المتحدث السابق باسم حكومة عبد الحميد الدبيبة، رئاسة القنصلية الليبية بعد شغور المنصب إثر فرار سلفه، سمير الطويل، المدان في فرنسا بثلاث سنوات مع وقف التنفيذ بتهمة الفساد.
خطوة تثير التساؤلات حول معايير التعيين في المناصب الحساسة، خصوصا أن انتقال حمودة جاء دون إعلان رسمي، في سياق يعكس لامبالاة مركزية بإدارة التمثيل الخارجي.
أما في باريس، فالوضع لم يكن أقل فوضوية، حيث اضطر السفير خالد كاجيجي إلى مغادرة منصبه نتيجة صراع داخلي مع الملحق المالي، ورغم حساسية العلاقة مع فرنسا، لم يتم حتى الآن الاتفاق بين محمد المنفي وعبد الحميد الدبيبة على اسم بديل، فيما يكتفي القائم بالأعمال مراد حميمة بإدارة ملفات محدودة، أبرزها التأشيرات.
في بروكسل، تولى جلال العلاشي إدارة ملف تمثيل ليبيا لدى الاتحاد الأوروبي، بعد إقالة السفيرة السابقة أمل الجراري التي أدينت بالاختلاس وحُكم عليها بالسجن سبع سنوات، على خلفية تحويلات مالية مرتبطة بشركة تابعة لابنها.
القضية تسببت بفتح تحقيق ليبي داخلي، أدى إلى إيقاف العلاشي لاحقًا من قبل هيئة الرقابة الإدارية، في خطوة تعكس استمرار التشظي المؤسساتي داخل النظام الدبلوماسي الليبي.
الوضع في لندن ليس أفضل حالًا، إذ تدار السفارة منذ أكثر من عام من قبل القائم بالأعمال خالد جويدة بعد الإطاحة بالسفير السابق صلاح مرحال، القريب من الدبيبة، بناءً على طلب مباشر من السلطات البريطانية.
وفي بكين، تواصل السفارة عملها دون سفير رسمي، تحت إدارة خالد السايح بصفته قائمًا بالأعمال منذ سنوات، بينما تحافظ موسكو على علاقة خاصة مع الدبلوماسي محمد المغراوي الذي يشغل منصب السفير منذ عام 2021، في ظل علاقات معقدة تحكمها تقاطعات دعم روسيا للجنرال خليفة حفتر.
في الولايات المتحدة، خاضت وفاء بوقعيقيص معركة طويلة لتثبيت سلطتها داخل السفارة الليبية في واشنطن، بدءًا من موقعها كقائمة بالأعمال عام 2015، وصولًا إلى منصب السفيرة عام 2017، مقاومتها لمحاولات الإقالة، خاصة من قبل وزيرة الخارجية السابقة نجلاء المنقوش، كانت إحدى أبرز المؤشرات على صراع النفوذ داخل الدبلوماسية الليبية، قبل أن تُجبر في نهاية المطاف على التراجع.
غير أن المنقوش نفسها لم تسلم، إذ أُقيلت بعد كشف اجتماع سري مع وزير الخارجية الإسرائيلي، وافق عليه الدبيبة ثم اضطر لاحقًا إلى التضحية بها.
الفراغ في القيادة الدبلوماسية بات قاعدة لا استثناء، يشغل طاهر البعور منصب وزير الخارجية بالإنابة، دون مؤشرات على وجود نية لتعيين وزير دائم، فيما تستمر البعثات في الخارج تحت إدارة القائمين بالأعمال، أو تبقى شاغرة.
في نهاية نيسان/ أبريل، اتخذ الدبيبة قرارًا بإغلاق 25 سفارة دفعة واحدة، من بينها بعثات في تشيلي، والفاتيكان، وفيتنام، ما مثّل إعلانًا عمليًا عن نهاية مرحلة الإنفاق غير المحسوب الذي ميّز سياسة القذافي الخارجية، خصوصًا في إفريقيا، حيث كانت ليبيا تدير سفارات في دول هامشية كناميبيا، ولوسوتو، وتوغو، من باب الولاء الأيديولوجي لا المصالح الوطنية.
المشهد العام يعكس سياسة خارجية لا تخضع لحسابات استراتيجية بقدر ما تعكس صراعات محلية، وتكريسًا لمحسوبيات سياسية داخلية تمتد إلى الخارج، في ظل غياب مؤسسي وفوضى إدارية تقوّض أي أمل بإعادة بناء صورة ليبيا على الساحة الدولية