عبر البوابة العشائرية.. صراع نفوذ بين أبوظبي وأنقرة وواشنطن في شمال الصومال

تتداخل في شمال الصومال خطوط الصراع بين اللاعبين الإقليميين والدوليين — الإمارات، وتركيا، والولايات المتحدة — حيث باتت السياسة العشائرية أداة أساسية لإعادة تشكيل النفوذ والسيطرة على الموانئ ومناطق التعدين الحيوية.
مقتل الزعيم العشائري عمر عبد الله في ضربة أمريكية بطائرة دون طيار شكّل شرارة كشفت شبكة تنافس معقدة بين القوى الثلاث، تمتد من جبال المدو إلى سواحل بوصاصو ولاس خوري.
تشير المعلومات الميدانية التي اطلعت عليها “بوليتكال كيز | Political Keys” إلى أن الهجوم الأمريكي الذي أودى بحياة الزعيم التقليدي عمر عبد الله، أحد أبرز وجوه عشيرة وارسنغالي المنتمية لقبيلة الدارود، كان نقطة انعطاف حادة في التوازنات المحلية والدولية في شمال الصومال.
الضربة، التي نُفذت بطائرة بدون طيار من نوع يُرجح أنه تابع لقيادة أفريكوم انطلقت من قاعدة أمريكية في جيبوتي، استهدفت منطقة جبلية على أطراف بلدة البوح في 13 أيلول/ سبتمبر.
وقد عُثر لاحقًا في الموقع على بقايا صاروخ جو–أرض من طراز AGM-179، ما أكد ضلوع الجانب الأمريكي في العملية.
ورغم إعلان القيادة الأمريكية في أفريقيا أن الهدف كان “تاجر أسلحة مرتبط بحركة الشباب”، فإن نفي الحركة السريع، إلى جانب خلفية الضحية كزعيم عشائري مؤثر وليس مقاتلًا، فتح الباب أمام فرضيات متعددة: من خطأ استخباراتي قاتل إلى اغتيال سياسي بالوكالة يجري عبر التنسيق بين مقديشو وواشنطن لتصفية شخصية رفضت الاصطفاف خلف سياسات الحكومة الفيدرالية.
يكتسب الحادث أبعاده الأعمق عند النظر إلى موقعه الجغرافي: إقليم سناج، أحد أكثر المناطق حساسية في الشمال الصومالي، تتنازعه ثلاث قوى: حكومة مقديشو المدعومة من تركيا، إدارة بونتلاند المدعومة إماراتيًا، وكيان “أرض الصومال” الذي يسعى للانفصال.
مشاريع استخراج الذهب والليثيوم
الإقليم الغني بالذهب والليثيوم يقع على تماس مباشر مع سلسلة جبال المدو، وهي منطقة تتحصن فيها خلايا حركة الشباب وتُعد مسرحًا لمشاريع تعدين جديدة تحت إشراف سلطات بونتلاند.
قبل مقتله بأسابيع، عقد عمر عبد الله اجتماعًا موسعًا مع رئيس بونتلاند سعيد عبد الله ديني، ناقشا فيه دعم عشيرة وارسنغالي للعمليات ضد الجماعات الجهادية في المدو، مقابل إشراكها في مشاريع استخراج الذهب والليثيوم.
هذا الاتفاق غير المعلن كان سيمنح بونتلاند شرعية عشائرية محلية لتوسيع نفوذها على حساب الحكومة الفيدرالية.
خلط الأوراق
لذا، فإن مقتله المفاجئ جاء ليعيد خلط الأوراق لصالح مقديشو، التي كانت في ذلك الوقت تدفع بمشروع سياسي جديد لإقامة ولاية الشمال الشرقي تضم أقاليم سول وسناج وكاين (SSC-Khatumo).
تُقرأ هذه الخطوة في سياق محاولات الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود لتقويض استقلالية بونتلاند وإعادة توسيع سلطة الحكومة المركزية في الشمال، مستفيدًا من دعم عسكري وسياسي تركي متنامٍ.
تمركز أنقرة وأبوظبي
فأنقرة، التي وقّعت في عام 2024 اتفاقية دفاع بحرية تمنحها صلاحيات حماية الساحل الصومالي مقابل 30% من عائدات المناطق الاقتصادية الخالصة، تسعى إلى تأمين موطئ قدم استراتيجي على المحيط الهندي وبحر العرب، في مواجهة النفوذ الإماراتي المتزايد.
أما أبوظبي، فقد كرّست وجودها العسكري في بوصاصو من خلال قوة شرطة بونتلاند البحرية (PMPF) التي تمولها وتضم نحو 10 آلاف عنصر، وتشغّل من مطار المدينة جسرًا جويًا إلى السودان لنقل معدات عسكرية ومساعدات لوجستية لقوات الدعم السريع.
كما تدير عبر شركة موانئ دبي العالمية موانئ بوصاصو وبربرة، ما يمنحها قدرة فعلية على التحكم بخطوط التجارة والتموين البحري في القرن الأفريقي.
في المقابل، تتحرك أنقرة لإسناد مقديشو عبر بناء شبكات نفوذ داخل النخب السياسية والقبلية.
فقد كثّفت الاتصالات مع عبد القادر أحمد علي (فردية)، رئيس ولاية الشمال الشرقي الجديدة، كما أجرت السفارة التركية في مقديشو مشاورات مع زعماء عشائريين لتعبئة الدعم الشعبي للمشروع الجديد.
وتشير مصادر محلية إلى أن أنقرة تعتبر الولاية الجديدة “جسرًا جيوسياسيًا” نحو السيطرة على الساحل الشمالي المطل على خليج عدن، ما يتيح لها منافسة الإمارات في الموانئ والممرات البحرية.
التوتر بين أنقرة وأبوظبي بلغ ذروته في يوليو الماضي عندما اعترضت قوات بونتلاند شحنة عسكرية تركية تضم ناقلات جنود ومدافع وبنادق كانت في طريقها إلى مقديشو، ما فُسّر في دوائر إقليمية كرسالة مباشرة من أبوظبي مفادها أن أي تعزيز للوجود التركي سيُواجه بردّ ميداني.
في هذا المشهد المتشابك، تجد واشنطن نفسها شريكًا في لعبة التوازنات، إذ تستخدم ضرباتها الجوية كأداة لإعادة ترتيب التحالفات دون انخراط مباشر.
فالولايات المتحدة، التي تحاول ضبط التوسع الصيني والروسي في أفريقيا، تعتبر الصومال نقطة اختبار لإستراتيجية “الاحتواء بالوكالة”، حيث تتقاطع مصالحها مع الإمارات أحيانًا ومع تركيا أحيانًا أخرى، لكن الهدف النهائي واحد: منع قيام فراغ استراتيجي في القرن الأفريقي قد تستفيد منه قوى معادية للغرب.
تصفية حسابات إقليمية
تكشف قضية مقتل الزعيم عمر عبد الله أن الصراع في شمال الصومال لم يعد محليًا، بل أصبح مسرحًا لتصفية حسابات القوى الإقليمية.
فبينما تستخدم أبوظبي المال والقوة العسكرية لبسط نفوذها عبر بونتلاند والموانئ، تراهن أنقرة على الشرعية الفيدرالية في مقديشو لتوسيع حضورها البحري، وتستغل واشنطن الفوضى لضبط ميزان القوى وفق مصالحها.
يبدو أن السياسة العشائرية الصومالية تحولت إلى أداة هندسة نفوذ بيد القوى الخارجية، حيث تُترجم التحالفات المحلية إلى أوراق تفاوضية في الصراعات الكبرى حول الموانئ والثروات المعدنية والممرات البحرية.
ومع استمرار التنافس الثلاثي، يواجه الشمال الصومالي خطر التحول إلى “منطقة إدارة بالوكالة”، تتحكم فيها قواعد أجنبية ومصالح متضاربة، بينما تتآكل سلطة الدولة المركزية وتزداد هشاشة الأمن الداخلي.
المصدر: بوليتكال كيز



