شؤون تحليلية دولية

بين المركزية في الشرق والفصائلية في الغرب.. كيف هو الوضع الأمني في ليبيا

تمهيد

تشهد ليبيا حالة من الاضطراب الأمني؛ فالانقسام القائم منذ سنوات بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس والقيادة العامة في بنغازي لا يزال يلقي بظلاله على المشهد، ويحول دون بناء مؤسسات موحدة وفعالة.

هذا الواقع أتاح لجماعات مسلحة في الغرب أن تتوسع خارج الأطر القانونية (تحت سلطة الحكومة المؤقتة في طرابلس) بينما فرضت السلطة في الشرق (حفتر) نموذجًا أمنيًا مركزيًا قائمًا على السيطرة العسكرية المباشرة.

وسط هذه التحديات، تتزايد الدعوات الدولية لاستئناف المسار السياسي، غير أنها تصطدم بعدم وجود توافق داخلي واضح بشأن آلية إجراء الانتخابات أو إعادة هيكلة المؤسسات السيادية، خاصة في القطاع الأمني.

وأتى انعقاد مؤتمر برلين 3 يوم 20 حزيران/ يونيو الجاري، كمحاولة جديدة لإنعاش التسوية السياسية، في وقت تزداد فيه المؤشرات الميدانية على تصعيد مسلح وتدخلات خارجية تتجاوز حدود ليبيا نحو ملفات إقليمية، لا سيما في العمق الإفريقي.

في هذا الإطار، يحاول التقرير التالي تقديم قراءة مركزة للتطورات الأمنية التي سبقت انعقاد المؤتمر.

طرابلس والمناطق الغربية

تشهد العاصمة طرابلس حالة من الفوضى المسلحة تتداخل فيها المليشيات تحت عباءة الشرعية الرسمية، حيث اقتحمت مجموعات مسلحة تابعة لحكومة الدبيبة مقر وزارة الموارد المائية لفرض عودة الوزير المُقال طارق أبوفليقة.

هذه الحادثة جاءت بعد سلسلة من التوترات المتصاعدة، بدأت بمقتل المشجع نادر عمر أحمد عقب اشتباكات بين جمهور نادي الأهلي وقوات أمنية، ما أدّى إلى أعمال شغب تضمنت إغلاق الطرق وحرق الحافلات ومقرات شرطية.

وفي الوقت نفسه، اندلعت احتجاجات أهلية في “القره بوللي” حيث أغلق الأهالي مديرية الأمن بالسواتر الترابية احتجاجًا على قرار ضمها إداريًا إلى تاجوراء، في تطور أظهرت حجم الغضب المحلي تجاه سياسات وزارة الداخلية، وأبرزت هشاشة السيطرة المركزية على الأجهزة الأمنية.

في جانب آخر، تم اغتيال “وائل غوار” المحسوب على السرية الثالثة بقيادة “رمزي اللفع” بعد تمرده على حكومة الدبيبة، على يد قوات الأمن العام.

كذلك تم اعتقال “عبد المجيد الضراط” المتهم بقتل المتظاهرين في غرغور سنة 2013، فيما وصفته السلطات بأنه تحرك قضائي يهدف لاستعادة الثقة في العدالة.

على صعيد التعبئة العسكرية، تم تشكيل غرفة عمليات جديدة بقيادة محمد زرموح (94) وحمد سبسي (التيغي)، وحمد سبسي (الملقب بـ”التيغي”)، إلى جانب آخرين مثل علي سريعة الشتيوي ومصطفى السمو، وذلك لتجميع عناصر مسلحة استعدادًا لمواجهة عسكرية محتملة أو تنفيذ تحرك ميداني، وذلك بعد فشل محاولة سابقة لتحريك المجموعات المسلحة الموجودة في طرابلس.

تمويل هذه الغرفة جاء من ميزانية الدولة بشكل مباشر، وجرى تخصيص مكافآت سخية بلغت 10 آلاف دينار للسيارة المسلحة و4 آلاف لكل فرد، هذا التمويل ترافق مع وعود واضحة بترقيات عسكرية وتوظيف رسمي، ما يشير إلى محاولة استمالة المقاتلين عبر الإغراءات المالية والمؤسسية.

لكن في المقابل، فإن بعض التشكيلات القوية – مثل جهاز مكافحة الإرهاب والجهاز الأمني الوطني – رفضت المشاركة في هذه التعبئة، وأكدت على ضرورة التهدئة، ما يبرز وجود انقسام في الموقف حتى داخل معسكر حكومة الدبيبة.

أما حول التضييق الأمني، فقد طال حتى الأجهزة النظامية، حيث نفذ عناصر الأمن الرئاسي وقفة احتجاجية للمطالبة بصرف مستحقاتهم المتوقفة منذ سنوات، فيما استمرت حملات الاعتقال ومداهمات الأحياء، وتُوجّه انتقادات لحكومة الدبيبة بتوظيف العنف السياسي.

الشرق الليبي ومناطق سيطرة حفتر

في المقابل، تسود مناطق الشرق الليبي حالة من الاستقرار الأمني النسبي القائم على الانضباط العسكري تحت قيادة القوات المسلحة العربية الليبية، حيث تولّت الكتيبة 101 مشاة، بتعليمات من الفريق صدام خليفة حفتر، مهمة تأمين معبر إيسين الحدودي مع الجزائر، ضمن إجراءات أمنية مشددة لحماية الحدود الجنوبية.

وفي الجنوب الغربي، سيرت الشرطة العسكرية دوريات أمنية في مرزق، امتدت من أم الأرانب إلى تجرهي، بهدف تأمين الطرق ومكافحة التهريب والنشاط المسلح في المنطقة.

وعلى الصعيد المؤسسي، عقدت القيادة العامة اجتماعًا موسعًا بحضور اللجنة العسكرية المشتركة “5+5” مع وفد أممي، في بنغازي، لمناقشة تقييم عمل البعثة الأممية والملفات العسكرية العالقة، في إطار ما تصفه القيادة العامة بجهود دعم الاستقرار وفق رؤية وطنية.

وعلى صعيد التدخل الإقليمي، يُتهم المشير خليفة حفتر بلعب دور مباشر في تأجيج الأزمة السودانية، تحديدًا عبر دعمه اللوجستي لقوات الدعم السريع، من خلال فتح محور جديد على مثلث الحدود “مصر لييبيا السودان”.

في حين أشارت تقارير صحفية واستخباراتية إلى أن المثلث الحدودي الآخر “ليبيا–السودان–تشاد” استُخدم كممر خلفي لتهريب ذخائر وعربات دفع رباعي وأسلحة ثقيلة باتجاه دارفور.

ووفق باحثين من مؤسسة “مجموعة الأزمات الدولية” ومراكز بحثية أوروبية، فإن هذا التدخل لا يهدد فقط استقرار السودان، بل يربك التوازنات داخل ليبيا نفسها عبر تورط شبكات تهريب وسماسرة حرب.

سياق دولي مشحون

تزامنت هذه التطورات مع حراك سياسي إقليمي، حيث أوفد رئيس حكومة الوحدة الوطنية وزير النفط خليفة عبدالصادق إلى أثينا للتفاوض على ملف ترسيم الحدود البحرية، وسط أنباء عن سعي الدبيبة لضمان دعم سياسي أوروبي، لضمان استمرار حكمه.

في هذا السياق، انعقد مؤتمر برلين 3 بشأن ليبيا في العاصمة الألمانية يوم 20 حزيران/ يونيو 2025، بمشاركة ممثلين عن الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ودول الجوار، والولايات المتحدة، وتركيا، ومصر، وروسيا.

وناقش المؤتمر مسارات توحيد المؤسسات الأمنية والمالية، وملف إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة، وضمان تنفيذ خارطة طريق للانتخابات المؤجلة.

رغم توجّه المجتمع الدولي للتأكيد على دعم الاستقرار، إلا أن الأطراف الليبية الرئيسية لم تُظهر التزامًا فعليًا بتطبيق مخرجات المؤتمر.

بعض التشكيلات المسلحة تجاهلت الدعوات لوقف التجييش، فيما تمادت أطراف أخرى في التحركات الأحادية، ما أدى إلى حالة من التشكيك في جدوى العملية السياسية.

في الوقت نفسه، وصف المفتي الليبي الصادق الغرياني مؤتمر برلين 3 بـ”المؤامرة لإسقاط حكومة الدبيبة”، بينما أعرب نائب برلماني من الشرق عن تشاؤمه من نجاح المؤتمر، معتبرًا أنه امتداد لجولات حوارية سابقة بلا ضمانات تنفيذ.

من جهتها، التقت السفارة الأمريكية برئيس مؤسسة النفط في طرابلس، وأكدت دعمها لاستقرار القطاع النفطي وشفافية توزيع الإيرادات.

تراجع مركزية الدولة وتضخم دور الميليشيات في طرابلس

يشير المسار الأمني في العاصمة طرابلس إلى تراجع قدرة الدولة المركزية على فرض السيطرة التنظيمية، مقابل تضخم دور الجماعات المسلحة التي تتحرك أحيانًا كأذرع سياسية أكثر منها وحدات أمنية.

الأحداث الأخيرة – من اقتحام الوزارات، إلى التعبئة المعلنة بقيادة قادة ميدانيين من مصراتة – تعكس ما يمكن تسميته بـ”أمن مفاوض”، قائم على الترضية المالية وشراء الولاءات، وليس على الانضباط المؤسسي.

تحليل مركز “كارنيغي للسلام” يُصنّف طرابلس كمساحة أمنية قابلة للاشتعال في أي وقت بسبب غياب تسلسل قيادة موحد، وتشظي الأجهزة بين الردع، والدعم، واللواء 444، والجهاز الأمني الوطني، وغيرها.

تتصرف هذه الكيانات باستقلال عملي وتخضع في كثير من الأحيان لتفاهمات فوقية مرتبطة بالتحالفات السياسية، لا بالتنظيم المهني.

تصعيد حكومة الدبيبة بتكليف غرفة عمليات جديدة برئاسة محمد زرموح (94)، وحمد سبسي (التيغي)، وما رافقه من تخصيص مكافآت مالية ووعد بالرتب إلى عودة “خصخصة العنف” كأداة لإدارة الأزمة، لا حلّها.

التوجه يقوّض فرص دمج المقاتلين في مؤسسات الدولة، ويفتح الباب أمام تكرار سيناريوهات اقتتال داخلي كما حدث في آب/ أغسطس 2023 أو تشرين الأول/ أكتوبر 2022.

وفي هذا السياق، فإن رفض تشكيلات قوية مثل الجهاز الأمني الوطني، ووحدة مكافحة الإرهاب المشاركة في هذه التعبئة، يعكس وجود وعي داخل بعض الأجنحة الأمنية بمخاطر الانجرار إلى صراع أهلي جديد، لكنه في الوقت ذاته يفضح انقسامًا أفقيًا داخل البنية الأمنية لحكومة الدبيبة نفسها.

استقرار أمني على حساب الحريات في الشرق الليبي

أما في المناطق التي تقع تحت سيطرة “حفتر” يسود نمط أمني صارم ومركزي قائم على الضبط العسكري لا على المساءلة المؤسسية، ويبرز نموذج “الأمن بالهيبة”، الذي تُديره قيادة موحدة بقيادة المشير حفتر، وهو ما وفر استقرارًا نسبيًا من ناحية أمنية، لكنه على حساب الحريات السياسية والمدنية.

تحركات الكتيبة 101 لتأمين معبر إيسين، والدوريات الممتدة جنوبًا من مرزق، تمثل جزءًا من شبكة أمنية محكمة تُحكم السيطرة على المداخل والمخارج، وتخضعها لمنطق عسكري لا يحتمل المرونة، هذا النمط – رغم نجاعته في محاربة الجريمة العابرة للحدود – يُضعف إمكانات الإدارة المحلية، ويُبقي الأمن في يد النخبة العسكرية، وليس المؤسسات المنتخبة.

بحسب “مجموعة الأزمات الدولية”، فإن هذا النوع من الاستقرار “المنضبط” قد يكون مناسبًا في المدى القصير، لكنه لا يؤسس لسلام مستدام، خصوصًا في ظل غياب رؤية أمنية مدنية ووجود تقارير عن انتهاكات بحق معارضين، وناشطين، وشخصيات قبلية لا تتماشى مع الخط السياسي للمركز في الرجمة.

الملف الأخطر يتمثل في التورط الإقليمي المباشر لحفتر في الأزمة السودانية، حيث تتقاطع مصالح حفتر مع شبكات تهريب وتنسيق عسكري مع قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.

التقارير الاستخباراتية من مصادر أفريقية وفرنسية وأمريكية تؤكد أن شحنات أسلحة ثقيلة وذخائر وأطقم عسكرية خرجت من شمال الكفرة والعوينات باتجاه دارفور، باستخدام خطوط تهريب مشتركة تمر عبر المثلث الحدودي الليبي–السوداني–التشادي.

يرى باحثون في معهد “كلينغنديل” الهولندي أن هذا التدخل لا يمكن فصله عن حسابات حفتر الإقليمية؛ فهو يسعى لتعزيز نفوذه كفاعل حدودي يمتلك أوراق تفاوض مع الخرطوم، والقاهرة، وحتى باريس. لكن في المقابل، فإن هذا التورط يعرّض ليبيا لمخاطر أمنية مرتدة، أبرزها احتمال نشوء رد فعل سوداني مباشر أو غير مباشر داخل الجنوب الليبي، وتسليح جماعات لا تخضع للدولة وتدويل الجريمة عبر الحدود، وإرباك التوازنات الدولية في الملف الليبي، خاصة إذا تطور الأمر إلى مواجهة بين وكلاء في ساحات متداخلة.

وتشير هذه التدخلات إلى تحول واضح في موقع حفتر من قائد محلي إلى فاعل إقليمي يعمل على تخليق ممرات أمنية خاصة به، وهو ما قد يصطدم لاحقًا مع التزامات ليبيا بموجب القانون الدولي واتفاقيات الجوار

Political Keys

منصة إخبارية مستقلة، سياسية منوعة، تسعى لتقديم تغطية إخبارية شاملة وفق أعلى معايير المهنية والموضوعية، وأن تكون الوجهة الأولى للمعلومات والتقارير الاستقصائية الخاصة، وأن توفر رؤىً وتحليلاتٍ جديدةً ومعمقةً للقرّاء والمتابعين، تمكنهم من فهمٍ أعمقَ للأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط والعالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى