القرن الإفريقي.. هل تتجه الصين لبناء قاعدة عسكرية في إريتريا؟

تشهد منطقة القرن الإفريقي تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة التنافس الجيوسياسي والجيو-اقتصادي بين القوى الكبرى، وفي مقدمتها الصين والولايات المتحدة. يتسابق الطرفان للسيطرة على الممرات البحرية الحيوية، خاصة البحر الأحمر وخليج عدن، حيث تمثل المنطقة شريانًا استراتيجيًا بالغ الأهمية للتجارة العالمية وأمن الطاقة. هذا الواقع يجعلها ساحة مفتوحة لصراع النفوذ وبناء القواعد العسكرية وتوسيع الشراكات الإقليمية.
ينطلق هذا التقرير من فرضية تحليلية، مدعومة بمؤشرات ميدانية وتقارير استخبارية مفتوحة المصدر، تفيد بأن الصين قد تتجه خلال المستقبل القريب إلى بناء قاعدة عسكرية أو منشأة لوجستية متقدمة في إريتريا. يندرج ذلك ضمن استراتيجيتها لتوسيع نفوذها في البحر الأحمر وتأمين مصالحها البحرية والتجارية.
من المهم التأكيد أن ما تتناوله هذا التقرير يعتمد على قراءة سياقية وتحليل استباقي مبني على أنماط التمدد الصيني السابقة في مناطق مشابهة، إضافة إلى تقاطعات المصالح الجيوسياسية في القرن الإفريقي.
أولًا: الديناميات الدولية والإقليمية في القرن الإفريقي
1 . القواعد العسكرية وتغير خريطة النفوذ: شهدت السنوات الأخيرة تحركات عسكرية بارزة من قبل الصين، التي أنشأت أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي في أغسطس 2017، بالقرب من مضيق باب المندب. كما أن التطورات الأخيرة تُشير إلى أن بكين تفكر في توسيع وجودها العسكري في المنطقة، خصوصًا باتجاه إريتريا. في المقابل، تشير تسريبات وتقارير إلى وجود مفاوضات أمريكية للاعتراف بـ أرض الصومال (صوماليلاند) مقابل السماح بإقامة قاعدة عسكرية أمريكية في ميناء بربرة.
2 . صراع الاعتراف والسيادة في أرض الصومال: في مارس 2025، رُصدت رسالة من الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود للرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقترح فيها منح الولايات المتحدة سيطرة تشغيلية حصرية على منشآت مثل قاعدة وميناء بربرة. القيادة في صوماليلاند رفضت بشكل قاطع هذا الاقتراح، مؤكدة أن الحكومة الفيدرالية في مقديشو لا تملك أي سلطة على أراضيها. من جانبها، عرضت صوماليلاند بشكل مستقل على الولايات المتحدة إنشاء قاعدة عسكرية في بربرة دون اشتراط الاعتراف الرسمي باستقلالها.
ثانيًا: دوافع الصين لتوسيع وجودها العسكري في القرن الإفريقي
1 . تجاوز القيود التشغيلية في جيبوتي: القاعدة الصينية في جيبوتي تواجه تحديات متعددة، منها الاحتكاك مع القوات الأمريكية في معسكر ليمونيه القريب. توترات سابقة، مثل مزاعم استخدام الصين لأشعة الليزر ضد طيارين أمريكيين عام 2018، زادت من حدة هذه التوترات. كما أن التواجد المكثف لقواعد عسكرية غربية في جيبوتي يفرض على الصين التفكير جديًا في تنويع تمركزاتها.
2 . الرد على التحركات الأمريكية في صوماليلاند: يُعتبر الانخراط الأمريكي “المحتمل” مع صوماليلاند، خاصة بعد عرض الأخيرة استضافة قاعدة أمريكية، تطورًا استراتيجيًا مقلقًا للصين. فبكين ترى في إقامة قاعدة أمريكية قريبة من باب المندب تهديدًا مباشرًا لنفوذها البحري، كما أن الاعتراف الأمريكي بصوماليلاند قد يخلق سابقة خطيرة تُوظف ضد موقف الصين تجاه تايوان. هذه التطورات دفعت الصين لتكثيف ضغوطها الدبلوماسية على هرجيسا (عاصمة صوماليلاند) والتأكيد على سياسة “صومال واحد” بدعم من مقديشو.
3 . حماية طريق الحرير البحري: يمثل البحر الأحمر مسارًا حيويًا في مبادرة الحزام والطريق الصينية؛ فحوالي 10% من التجارة البحرية العالمية تمر عبر مضيق باب المندب سنويًا. تأمين هذا الممر يفرض على بكين توسيع انتشارها العسكري واللوجستي، وربما إقامة وجود بحري في موانئ مثل “مصوع” و”عصب” في إريتريا لتأمين الخطوط البحرية الحيوية.
4 . تعظيم الاستفادة من العلاقات الاقتصادية مع إريتريا: تمتلك الصين استثمارات ضخمة في البنية التحتية الإريترية تشمل الطرق والطاقة ومشاريع التعدين. هذه الاستثمارات تخلق حالة من التداخل الاقتصادي والسياسي تسمح لبكين بتوسيع حضورها العسكري بتكلفة دبلوماسية منخفضة. كما أن زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي للصين في مايو 2023 عززت من متانة هذه العلاقة الاستراتيجية.
5 . استغلال الموقع الاستراتيجي لإريتريا: تمتلك إريتريا ساحلًا طويلًا على البحر الأحمر يزيد عن 1200 كيلومتر مع موانئ طبيعية عميقة في مصوع وعصب، قادرة على استيعاب السفن الحربية الصينية بدون تطوير بنى تحتية معقدة. هذا الموقع يمنح الصين نقطة ارتكاز مباشرة في جنوب البحر الأحمر لمراقبة الملاحة البحرية عبر مضيق باب المندب.
ثالثًا: التداعيات الاستراتيجية المحتملة
1 . تصاعد عسكرة البحر الأحمر: من المتوقع أن يؤدي التوسع العسكري الصيني في إريتريا إلى زيادة عسكرة المنطقة ودخول قوى دولية مثل روسيا وتركيا ودول الخليج في سباق موازٍ لتأمين قواعد جديدة، الأمر الذي يرفع مستوى المخاطر المرتبطة بحوادث الاحتكاك وسوء التقدير.
2 . تعزيز القدرات الصينية في استعراض القوة: وجود قواعد صينية متعددة في جيبوتي وإريتريا سيمنح بكين قدرة مزدوجة على مراقبة وتأمين الممرات البحرية الحيوية، بالإضافة إلى تأمين خطوط الإمداد وخطط الإجلاء، كما يعزز قدرة الصين على جمع معلومات استخباراتية حساسة حول نشاطات الولايات المتحدة وحلفائها.
3 . تقويض الاستراتيجية العسكرية الأمريكية: ستُجبر واشنطن على مراجعة خططها العسكرية في المنطقة، وقد يدفعها لتسريع خطواتها نحو بناء قاعدة في صوماليلاند أو تعزيز تحالفاتها مع قوى إقليمية مثل إسرائيل والإمارات ومصر، ما قد يدفع إلى حالة تنافس مباشر على بناء القواعد والتوسع البحري.
4 . تعديل ميزان القوى الإقليمي: يمنح التوسع العسكري الصيني إريتريا موقعًا تفاوضيًا أقوى في نزاعاتها مع جيرانها، كما أن الدعم الصيني يمكن أن يشجع أسمرة على انتهاج سياسات أكثر حدة تجاه إثيوبيا أو أطراف إقليمية أخرى.
5 . تعميق التكامل الاقتصادي الصيني-الإريتري: تدير الصين مشاريع استراتيجية ضخمة في إريتريا مثل مناجم الذهب والنحاس والبوتاس، ومن المتوقع أن يتزايد حجم هذه الاستثمارات بشكل متسارع؛ الأمر الذي سيؤدي إلى علاقة تبعية متبادلة قد تقلص من هامش المناورة السياسي لإريتريا.
6 . تضييق الخناق على تايوان دبلوماسيًا: مع اتساع النفوذ الصيني في القرن الإفريقي، ستواجه تايوان صعوبات متزايدة في الحفاظ على تمثيلها المحدود في المنطقة. الصين ستستغل أي توسع عسكري لإحكام الطوق الدبلوماسي على تايوان، بما في ذلك الضغط على صوماليلاند لإنهاء علاقاتها مع تايبيه. وتجدر الإشارة إلى أن تايوان وصوماليلاند على علاقة ودية.
رابعًا: سيناريوهات متوقعة
تُظهر مؤشرات التمدد الصيني في البحر الأحمر أن بكين تعتمد استراتيجية مرنة، تزاوج بين النفوذ الاقتصادي والتوسع العسكري التدريجي؛ فالصين تتحرك بخطى محسوبة لبناء وجود عسكري طويل الأمد في إريتريا، بهدف تحقيق التوازن مع أي تقدم أمريكي في صوماليلاند. رغم العقبات المحتملة المرتبطة بالتعقيدات الإقليمية والمخاطر الدبلوماسية، فإن الاتجاه العام يشير إلى مزيد من الانخراط العسكري الصيني.
السيناريو الأكثر ترجيحًا يتمثل في إقامة قاعدة لوجستية مرنة أو موانئ دعم للأسطول البحري الصيني بدلاً من إنشاء قاعدة عسكرية تقليدية. هذا النهج يمنح بكين مرونة تشغيلية مع هامش سياسي يسمح لها بتقليل حساسية القوى الغربية تجاه هذا التوسع.
في المقابل، من المتوقع أن تصعّد الولايات المتحدة من تحركاتها عبر توثيق تحالفاتها الإقليمية، وربما تسريع الاعتراف بصوماليلاند كوسيلة لمعادلة النفوذ الصيني.
خاتمة: المؤشرات على السيناريو المتوقع
من خلال تتبع التحركات الصينية في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، تتضح ملامح توجه استراتيجي طويل الأمد يستند إلى مزيج من النفوذ الاقتصادي والتوسع العسكري التدريجي. كما أن بناء قاعدة عسكرية صينية في إريتريا لا يزال حتى اللحظة سيناريو متوقعًا وليس واقعًا قائمًا؛ فهو ينبثق من تحليلات معمقة للأنماط الصينية في التعامل مع المناطق الاستراتيجية الحساسة، ويدعمه تزايد حجم الاستثمارات الصينية في إريتريا، وتوافر مواقع بحرية قابلة للتطوير ضمن بنية موانئ ثنائية الاستخدام.
ما يدعم هذا السيناريو هو طبيعة النهج الصيني الذي يفضل بناء النفوذ عبر مراحل تبدأ بالانخراط الاقتصادي واللوجستي وتنتهي غالبًا بإيجاد بنية قادرة على دعم عمليات عسكرية عند الحاجة. كذلك فإن تزايد التحركات الأمريكية المحتملة في أرض الصومال يعزز منطق الصين في تنويع تمركزاتها العسكرية، لتأمين خطوط الملاحة والطاقة الحيوية المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق.
إن التقاء المصالح الصينية-الإريترية في بيئة إقليمية مضطربة يجعل هذا المسار واحدًا من السيناريوهات المرجحة خلال الأعوام المقبلة.



