شؤون تحليلية دولية

جمهورية إفريقيا الوسطى.. سلام هش وصراع مستمر

تشهد جمهورية إفريقيا الوسطى منذ استقلالها عام 1960 حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني المتكرر، حيث تعاقبت فيها الانقلابات العسكرية وجولات الاقتتال الأهلي، وسط محاولات متكررة لعقد اتفاقات سلام لم تصمد طويلًا أمام ديناميات الصراع الداخلي.

وتُجمع القراءات الميدانية على أن هذه الدولة الإفريقية لا تزال منذ ما يزيد على ستة عقود عالقة في دائرة النزاع المسلح، والانقسامات العرقية، والتنافس على السلطة والموارد.

ويؤكد الباحثون أن تصاعد الأزمة منذ عام 2013 يمثل نقطة تحول حاسمة حين أطاحت جماعة “سيليكا” المسلحة بنظام “فرانسوا بوزيزيه”، ودخلت البلاد مرحلة جديدة من الانفلات الأمني والانقسامات المجتمعية، لتتحول الجمهورية إلى ساحة مفتوحة لصراعات معقدة الأطراف، تغذيها المصالح المحلية والإقليمية والدولية.

انهيار الاتفاقات المتعاقبة

تتفق الدراسات والتحليلات على أن الاتفاقات التي تم توقيعها منذ 2013، بدءًا من اتفاق 2019، ووصولًا إلى الاتفاق الثلاثي الموقع في نيسان/ أبريل 2025، لم تحقق استقرارًا فعليًا، ففي كل مرة يتم التوصل إلى تفاهمات تهدف إلى وقف القتال ونزع السلاح وإعادة دمج المقاتلين، تنهار هذه التفاهمات سريعًا، إما بسبب رفض الجماعات المسلحة لبنودها أو بسبب فشل الحكومة في تنفيذ التزاماتها.

الاتفاق المُوقّع في 6 شباط/ فبراير 2019 بين الحكومة و14 جماعة مسلحة مثّل حينها محطة مهمة على طريق البحث عن السلام، لكنه سرعان ما تعثر مع إعلان بعض الفصائل المسلحة انسحابها اعتراضًا على آلية تشكيل الحكومة.

وفي آذار/ مارس 2020، انسحبت “الجبهة الديمقراطية لشعب إفريقيا الوسطى” معتبرة أن الحكومة الجديدة لم تراعِ مبدأ الشمولية.

وفي حزيران/ يونيو من نفس العام، أعلنت “حركة 3R” تعليق مشاركتها في الهيئات التنفيذية للاتفاق، وسمحت لمقاتليها بالرد العسكري على أي هجوم تتعرض له قواعدها.

وقد عادت هذه الجماعات لاحقًا إلى القتال المسلح في خضم انهيار الاتفاق وفشل الأطراف في الالتزام بمسارات نزع السلاح وإعادة الدمج.

الاتفاق الثلاثي والعودة إلى نقطة البداية

في نيسان/ أبريل 2025، وُقّع في العاصمة التشادية إنجامينا، برعاية الرئيس “محمد إدريس ديبي” اتفاقًا أوليًا بين الحكومة وفصيلي “الاتحاد من أجل السلام” و”حركة 3R”، نص على وقف القتال وحل الجماعتين وعودتهما إلى الحياة المدنية، ويُنظر إلى هذا الاتفاق، وفقًا لتحليل مراقبين، باعتباره امتدادًا لاتفاق 2019 وليس انطلاقة جديدة.

ويُشير مراقبون إلى أن هذه الاتفاقات، التي تُقدَّم على أنها محاولات لإنعاش مسار السلام، ما هي إلا تدوير مستمر لمطالب قديمة دون أن تتغير الآليات أو تُعالج الإشكالات البنيوية التي عطلت الاتفاقات السابقة.

وقد صدرت عقب توقيع الاتفاق تعليمات من قيادات الجماعات المسلحة بوقف الأعمال القتالية، وأكد رئيس أركان القوات المسلحة على احترام وقف إطلاق النار وضرورة الإسراع بتحديد مواقع تجميع المقاتلين تمهيدًا لنزع سلاحهم.

تحديات مستعصية

تشير خبرات سابقة إلى أن جمهورية إفريقيا الوسطى تواجه تحديات عميقة تقوّض فرص إنجاح أي اتفاق سلام.

من أبرز هذه التحديات هشاشة الاتفاقات وغموض بنودها، حيث يرى باحثون أن الاتفاقات الموقعة، بما في ذلك الاتفاق الثلاثي لعام 2025، تنطلق من قاعدة قانونية ضعيفة؛ إذ لا تزال تعتمد في جوهرها على اتفاق 2019 الذي فشل في تثبيت السلام، ولم تتضمن هذه الاتفاقات آليات تنفيذ واضحة، خاصة فيما يتعلق بكيفية تشكيل الوحدات الأمنية المختلطة، وآلية نزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة دمجهم.

كما أن بنود الاتفاقات غالبًا ما تُركت مفتوحة لتفسيرات متباينة بين الأطراف، مما يجعلها عرضة للانهيار بمجرد اختلاف القراءة حولها، ويُلاحظ أن الاتفاق الثلاثي افتقر إلى الشفافية الكافية ولم يُفصح عن تفاصيله الجوهرية وجدوله الزمني بدقة.

ومن التحديات التي تواجه جمهورية إفريقيا الوسطى في سبيل اتفاق سلام ناجح، تعثر التنفيذ العملي، حيث تُظهر الوقائع أن كثيرًا من بنود اتفاقات السلام لم تُنفذ على أرض الواقع، حتى بعد مرور سنوات على توقيعها، فعمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج شهدت تقدمًا بطيئًا للغاية، كما أن لجان الحقيقة والمصالحة المنصوص عليها لم تفِ بمتطلبات العدالة الانتقالية حتى الآن.

وتؤكد التقارير الميدانية أن استمرار تداول الأسلحة بشكل غير مشروع، وتعثر تشكيل الوحدات الأمنية المشتركة، يثبت أن الاتفاقات لم تتجاوز الحبر على الورق.

يضاف استمرار العمليات العدائية إلى قائمة هذه التحديات، حيث تشير بيانات ميدانية إلى أن الجماعات المسلحة استمرت في تنفيذ هجمات بعد توقيع الاتفاق الثلاثي، ففي 27 نيسان/ أبريل 2025، نفّذت عناصر من “حركة 3R” هجومًا على سوق أسبوعي في دوكو بمحافظة أوهام بيندي.

كما شهدت منطقة كيي في 29 نيسان/ أبريل ذاته هجومًا مسلحًا أسفر عن سقوط قتلى وجرحى على يد عناصر مسلحة من فصيل “الاتحاد من أجل السلام”.

هذه الحوادث تعكس بوضوح أن وقف إطلاق النار لم يتحقق عمليًا، وأن الأطراف المسلحة لا تزال قادرة على شن هجمات رغم توقيعها على الاتفاق.

من التحديات التي تواجه اتفاقيات السلام أيضا انعدام الثقة بين الأطراف، إذ تؤكد القراءات أن انعدام الثقة بين الحكومة والجماعات المسلحة يمثل عائقًا جوهريًا أمام تحقيق السلام، فالفصائل المسلحة تنظر بعين الريبة إلى تحركات الدولة، خاصة فيما يتعلق بالاتفاقات الأمنية مع دول الجوار والتعاون مع قوات فاغنر الروسية.

وتُظهر مواقف ميليشيا أزاندي في مدينة زيميو رفضًا صريحًا لسلطة الدولة والقوات الحليفة لها، بما يعكس استمرار حالة الاغتراب السياسي والأمني بين الحكومة والمجتمعات المحلية في بعض المناطق.

كل هذه التحديات يضاف إليها فشل برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج (DDR)، حيث ترصد التقارير أن برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج تعاني من تعثر مستمر، سواء من حيث بطء التنفيذ أو سوء إدارة العملية.

ورغم أن نحو 7000 مقاتل تم تسريحهم منذ 2018، إلا أن كثيرًا من هؤلاء عادوا مجددًا إلى حمل السلاح بسبب ضعف البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي كان يفترض أن تستوعبهم.

كما أن عمليات الدمج العشوائي للمقاتلين السابقين داخل القوات المسلحة أدّت إلى اختلالات داخلية في الجيش وعمّقت التوترات الطائفية، كما حدث في محافظة هوت مبومو، حيث ساهم دمج مقاتلي زاندي في القوات المسلحة في تصاعد أعمال العنف ضد المجموعات الأخرى.

وتعتبر محدودية حماس الجماعات المسلحة من التحديات التي تواجه عملية السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى، إذ يؤكد باحثون أن الجماعات المسلحة، خاصة القوية منها، لا تُبدي حماسًا كافيًا لتنفيذ اتفاقات السلام، إذ تفضل هذه الجماعات الاحتفاظ بأسلحتها والاستمرار في السيطرة على مناطق غنية بالموارد، ما دامت قادرة على فرض وجودها عسكريًا وتحقيق مكاسب اقتصادية دون تقديم تنازلات سياسية جوهرية.

الحوادث الأخيرة، مثل هجوم ميليشيا أزاندي على مواقع الجيش في زيميو في 30 نيسان/ أبريل 2025، تعكس استمرار تمسك الجماعات المسلحة بخيار القوة.

آخر التحديات البارزة هو تصاعد التوترات السياسية، حيث تُجمع التحليلات على أن بيئة إفريقيا الوسطى السياسية لا تزال مشحونة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وتصاعد الجدل حول احتمال ترشح الرئيس “فوستين أركانج تواديرا” لولاية ثالثة.

ويُخشى أن يؤدي هذا الوضع إلى مزيد من الانقسامات بين الحكومة والمعارضة والجماعات المسلحة، وهو ما قد يُفجِّر الجولة المقبلة من العنف.

خلاصة المشهد

إن مسار السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى لا يزال محاصرًا بعوامل التفكك والتعثر؛ فالاتفاقات الموقعة تُواجه بُنى اجتماعية وقوى مسلحة لا تثق في الدولة، ولا ترى جدوى من التخلي عن السلاح مقابل وعود يصعب تحقيقها في ظل انعدام القدرة على تنفيذها.

ويُجمع خبراء الصراع في إفريقيا الوسطى على أن معالجة جذور الأزمة تتطلب إصلاحًا جذريًا في مقاربات الحكم، وآليات تقاسم السلطة والثروة، وتقديم ضمانات تنفيذ حقيقية تتجاوز الأطر النظرية، بالإضافة إلى معالجة قضية انعدام الثقة بين جميع الأطراف.

حتى ذلك الحين، ستظل اتفاقات السلام في إفريقيا الوسطى بمثابة نصوص معلقة، وأهداف مؤجلة يصعب تحقيقها في المدى المنظور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى